بالعذاب ، وإن غفرت لهم مع كفرهم ، لم تعدم في المغفرة وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول ، بل متى كان المجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن. وهذا من الزمخشري ميل إلى مذاهب أهل السنة فإن غفران الكفر جائز عندهم وعند جمهور البصريين من المعتزلة عقلا ، قالوا : لأن العقاب حق لله على الذنب وفي إسقاطه منفعة ، وليس في إسقاطه على الله مضرة ، فوجب أن يكون حسنا ودل الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع ، فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجودا في شرع عيسى عليهالسلام ، انتهى كلام جمهور البصريين من المعتزلة.
وقال أهل السنة : مقصود عيسى تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى وترك الاعتراض بالكلية ، ولذلك ختم الكلام بقوله : (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي : قادر على ما تريد في كل ما تفعل لا اعتراض عليك. وقيل لما قال لعيسى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) الآية. علم أن قوما من النصارى حكوا هذا الكلام عنه والحاكي هذا الكفر لا يكون كافرا بل مذنبا حيث كذب وغفران الذنب جائز فلهذا قال : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ). وقيل : كان عند عيسى أنهم أحدثوا المعاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به إلا أنهم على عمود دينه ، فقال : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) ما أحدثوا بعدي من المعاصي وهذا يتوجه على قول من قال : إن قول الله له (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) كان وقت الرفع ، لأنه قال ذلك وهم أحياء لا يدري ما يموتون عليه. وقيل : الضمير في تعذبهم عائد على من مات كافرا وفي (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) عائد على من تاب منهم قبل الموت. وقيل : قال ذلك على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم ، مع علمه بأن الكفار لا يغفر لهم ولهذا لم يقل لأنهم عصوك؟ انتهى وهذا فيه بعد لأن الاستعطاف لا يحسن إلا لمن يرجى له العفو والتخفيف ، والكفار لا يرجى لهم ذلك والذي أختاره من هذه الأقوال أن قوله تعالى (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) قول قد صدر ، ومعنى يعطفه على ما صدر ومضى ، ومجيئه بإذ التي هي ظرف لما مضى ويقال التي هي حقيقة في الماضي فجميع ما جاء في هذه الآيات من إذ قال هو محمول على أصل وضعه ، وإذا كان كذلك فقول عيسى (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) فعبر بالسبب عن المسبب لأنه معلوم أن الغفران مرتب على التوبة وإذا كان هذا القول في غير وقت الآخرة ، كانوا في معرض أن يرد فيهم التعذيب أو المغفرة الناشئة عن التوبة ، وظاهر قوله (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إنه جواب الشرط والمعنى فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما