وأجاز أبو البقاء أن يكون (كَمْ) هنا ظرفا وأن يكون مصدرا ، أي : كم أزمنة أهلكنا؟ أو كم إهلاكا أهلكنا؟ ومفعول أهلكنا من قرن على زيادة من وهذا الذي أجازه لا يجوز ، لأنه لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع بل تدل على المفرد ، لو قلت : كم أزمانا ضربت رجلا أو كم مرة ضربت رجلا؟ لم يكن مدلوله مدلول رجال ، لأن السؤال إنما هو عن عدد الأزمان أو المرات التي ضرب فيها رجل ، ولأن هذا الموضع ليس من مواضع زيادة (مِنْ) لأنها لا تزاد إلا في الاستفهام المحض أو الاستفهام المراد به النفي ، والاستفهام هنا ليس محضا ولا يراد به النفي.
والظاهر أن قوله (مَكَّنَّاهُمْ) جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : ما كان من حالهم؟ فقيل : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ). وقال أبو البقاء : (مَكَّنَّاهُمْ) في موضع خبر صفة (قَرْنٍ) وجمع على المعنى وما قاله أبو البقاء ممكن ، و (ما) في قوله : (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) جوزوا في إعرابها أن تكون بمعنى الذي ويكون التقدير التمكين ، الذي (لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) فحذف المنعوت وأقيم النعت مقامه ، ويكون الضمير العائد على (ما) محذوفا أي ما لم نمكنه لكم وهذا لا يجوز ، لأن (ما) بمعنى الذي لا يكون نعتا للمعارف وإن كان مدلولها مدلول الذي ، بل لفظ الذي هو الذي يكون نعتا للمعارف لو قلت ضربت الضرب ما ضرب زيد تريد الذي ضرب زيد لم يجز ، فلو قلت : الضرب الذي ضربه زيد جاز وجوزوا أيضا أن يكون نكرة صفة لمصدر محذوف تقديره تمكينا لم نمكنه لكم ، وهذا أيضا لا يجوز لأن (ما) النكرة الصفة لا يجوز حذف موصوفها ، لو قلت : قمت ما أو ضربت ما وأنت تريد قمت قياما ما وضربت ضربا ما لم يجز ، وهذان الوجهان أجازهما الحوفي وأجاز أبو البقاء أن يكون (ما) مفعولا به بنمكن على المعنى ، لأن المعنى أعطيناهم ما لم نعطكم ، وهذا الذي أجازه تضمين والتضمين لا ينقاس ، وأجاز أيضا أن تكون (ما) مصدرية والزمان محذوف أي مدة (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) ويعني مدة انتفاء التمكين لكم ، وأجاز أيضا أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها أي شيئا لم نمكنه لكم ، وحذف العائد من الصفة على الموصوف وهذا أقرب إلى الصواب وتعدى مكن هنا للذوات بنفسه وبحرف الجر ، والأكثر تعديته باللام (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) (١) (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) (٢) أو لم نمكن لهم. وقال أبو عبيد مكناهم ومكنا لهم لغتان فصيحتان ، كنصحته ونصحت له والإرسال والإنزال متقاربان في المعنى لأن اشتقاقه من رسل اللبن ، وهو ما ينزل من الضرع متتابعا
__________________
(١) سورة يوسف : ١٢ / ٢١ و ٥٦.
(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٨٤.