للإنسان دون ذكر الجماد ودون ذكر ما يعمها من حيث قسوة المماثلة في الشعور بالأشياء والاهتداء إلى كثير من المصالح بخلاف الجماد ، وإن كانت القدرة متعلقة بجميع المخلوقات ودابة تقدّم شرحها ، وهي هنا في سياق النفي مصحوبة بمن التي تفيد استغراق الجنس ، فهي عامّة تشمل كل ما يدبّ فيندرج فيها الطائر ، فذكر الطائر بعد ذكر الدابة تخصيص بعد تعميم وذكر بعض من كلّ وصار من باب التجريد كقوله : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (١) بعد ذكر الملائكة. وإنما جرد الطائر لأن تصرفه في الوجود دون غيره من الحيوان أبلغ في القدرة وأدل على عظمها من تصرف غيره من الحيوان في الأرض ، إذ الأرض جسم كثيف يمكن تصرف الأجرام عليها ، والهواء جسم لطيف لا يمكن عادة تصرف الأجرام الكثيفة فيها إلا بباهر القدرة الإلهية ، ولذلك قال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) (٢) وجاء قوله في الأرض إشارة إلى تعميم جميع الأماكن لما كان لفظ (مِنْ دَابَّةٍ) وهو المتصرف أتى بالمتصرف فيه عاما وهو (الْأَرْضِ) ، ويشمل الأرض البر والبحر ، ويطير بجناحيه تأكيد لقوله (وَلا طائِرٍ) لأنه لا طائر إلا يطير بجناحيه ، وليرفع المجاز الذي كان يحتمله قوله (وَلا طائِرٍ) لو اقتصر عليه ، ألا ترى إلى استعارة الطائر للعمل في قوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (٣) وقولهم : «طار لفلان كذا في القسمة» أي سهمه ، و «طائر السعد والنحس» وفيه تنبيه على تصور هيئته على حالة الطيران واستحضار لمشاهدة هذا الفعل الغريب. وجاء الوصف بلفظ «يطير» لأنه مشعر بالديمومة والغلبة ، لأن أكثر أحوال الطائر كونه يطير ، وقلّ ما يسكن ، حتى إن المحبوس منها يكثر ولوعه بالطيران في المكان الذي حبس فيه من قفص وغيره.
وقرأ ابن أبي عبلة (وَلا طائِرٍ) بالرفع ، عطفا على موضع (دَابَّةٍ). وجوزوا أن يكون (فِي الْأَرْضِ) في موضع رفع صفة على موضع (دَابَّةٍ) ، وكذلك يقتضي أن يكون (يَطِيرُ) ويتعين ذلك في قراءة ابن أبي عبلة ، والباء في (بِجَناحَيْهِ) للاستعانة كقوله : «كتبت بالقلم» و (إِلَّا أُمَمٌ) هو خبر المبتدأ الذي هو (مِنْ دَابَّةٍ وَلا طائِرٍ) وجمع الخبر وإن كان المبتدأ مفردا حملا على المعنى لأن المفرد هنا للاستغراق والمثلية هنا.
قال الزمخشري أمثالكم مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم انتهى.
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٩٨.
(٢) سورة النحل : ١٦ / ٧٩.
(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ١٣.