أيضا لمعرفتهم بولادته ونشأته بين أظهرهم ، فنفى أيضا ادعاءه ذلك ولم ينفهما من أصلهما لأن انتفاء ذلك من أصله معلوم عندهم ، فنفى أن يكابرهم في ادعاء شيء يعلمون خلافه قطعا. ولما كان علم الغيب أمرا يمكن أن يظهر على لسان البشر بل قد يدعيه كثير من الناس كالكهان وضراب الرمل والمنجمين ، وكان صلىاللهعليهوسلم قد أخبر بأشياء من المغيبات وطابقت ما أخبر به نفي علم الغيب من أصله فقال : (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) تنصيصا على محض العبودية والافتقار. وإن ما صدر عنه من إخبار بغيب إنما هو من الوحي الوارد عليه لا من ذات نفسه ، فقال : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) كما قال فيما حكى الله عنه (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) (١) وكما أثر عنه عليهالسلام «لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا أن يعلمني ربي» ، وجاء هذا النفي على سبيل الترقي فنفى أولا ما يتعلق به رغبات الناس أجمعين من الأرزاق التي هي قوام الحياة الجسمانية ، ثم نفى ثانيا ما يتعلق به وتتشوف إليه النفوس الفاضلة من معرفة ما يجهلون وتعرّف ما يقع من الكوائن ثم نفى ثالثا ما هو مختص بذاته من صفة الملائكة التي هي مباينة لصفة البشرية فترقى في النفي من عام إلى خاص إلى أخص ، ثم حصر ما هو عليه في أحواله كلها بقوله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي أنا متبع ما أوحى الله غير شارع شيئا من جهتي ، وظاهره حجة لنفاة القياس.
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي لا يستوي الناظر المفكر في الآيات والمعرض الكافر الذي يهمل النظر. قال ابن عباس : الكافر والمؤمن. وقال ابن جبير : الضال والمهتدي. وقيل : الجاهل والعالم. وقال الزمخشري : مثل للضلّال والمهتدين ويجوز أن يكون مثلا لمن اتبع ما يوحى إليه ومن لم يتبع أو لمن ادعى المستقيم ، وهو النبوة والمحال وهو الألوهية والملكية.
(أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) هذا عرض وتحضيض معناه الأمر أي ففكروا ولا تكونوا ضالين أشباه العمي أو فكروا فتعلمون ، أي لا أتبع إلا ما يوحى إليّ أو فتعلمون إني لا أدّعي ما لا يليق بالبشر.
(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) لما أخبر أنه لا يتبع إلا ما يوحى إليه أمره الله تعالى أن ينذر به فقال : (وَأَنْذِرْ بِهِ) أي بما أوحي إليك. وقيل : يعود على الله أي بعذاب الله. وقيل : يعود على الحشر وهو مأمور بإنذار الخلائق كلهم وإنما خص بالإنذار هنا من خاف الحشر لأنه مظنة الإيمان ، وكأنه قيل : الكفرة المعرضون دعهم ورأيهم وأنذر
__________________
(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٨.