الأمر مضمنا التهديد والوعيد ، كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (١) وفي قوله : (ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) أنها تفيد التعظيم والتبشيع لما يعملون ، كقوله تعالى : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) (٢).
(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) قال مشركو قريش للرسول : اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود ، وإن شئت من أساقفة النصارى ، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت. ووجه نظمها بما قبلها أنه لما حكى حلف الكفار وأجاب بأنه لا فائدة في إظهار الآيات المقترحة لهم أنهم لا يبقون مصرين على الكفر بين الدليل على نبوته بإنزال القرآن عليه ، وقد عجز الخلق عن معارضته وحكم فيه بنبوته ، وباشتمال التوراة والإنجيل على أنه رسول حق ، وأن القرآن كتاب من عند الله حق. ووجه آخر وهو أنه لما ذكر العداوة وتهددهم قالوا ما ذكرناه في سبب النزول. وكان من عادتهم إذا التبس عليهم أمر واختلفوا فيه جعلوا بينهم كاهنا حكما فأمره الله أن يقول : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) وهذا استفهام معناه النفي أي لا أبتغي حكما غير الله. قال الكرماني : والحكم أبلغ من الحاكم لأنه من عرف منه الحكم مرة بعد أخرى ، والحاكم اسم فاعل يصدق على المرة الواحدة. وقال إسماعيل الضرير : الفرق بينهما أن الحكم لا يحكم إلا بالحق والحاكم يحكم بالحق وبغير الحق. وقال ابن عطية نحوه. قال الحكم : أبلغ من الحاكم إذ هي صيغة للعدل من الحكام ، والحاكم جار على الفعل وقد يقال للجائر ؛ انتهى. وكأنه إشارة إلى حكم الله عليهم بأنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم كل الآيات ، أو حكمه بأن جعل للأنبياء أعداء وحكما أي فاصلا بين الحق والباطل ، وجوزوا في إعراب غير أن يكون مفعولا بأبتغي وحكما حال وعكسه وأجاز الحوفي وابن عطية أن ينتصب على التمييز عن غيرهم كقولهم : إن لنا غيرها إبلا وهو متجه. وحكاه أبو البقاء فالكتاب القرآن ومفصلا موضحا مزال الإشكال أو مفضلا بالوعد والوعيد أو مفصلا مفرقا على حسب المصالح أي لم ينزله مجموعا أو مفصلا فيه الأحكام من النهي والأمر والحلال والحرام والواجب والمندوب والضلال والهدى ، أو مفصلا مبينا فيه الفصل بين الحق والباطل والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء أقوال خمسة وبهذه الآية خاصمت الخوارج عليا في تكفيره بالتحكيم وهذه الجملة حالية.
(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) أي والذين أعطيناهم
__________________
(١) سورة فصلت : ٤١ / ٤٠.
(٢) سورة طه : ٢٠ / ٧٨.