(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) تقدّم مثل تفسير هذه الآية ، ونزلت قيل : في طعمة. وقيل : في نفر من قريش أسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين. وقيل : في شيخ قال : لم أشرك بالله منذ عرفته ، إلا أنه كان يأتي ذنوبا ، وأنه ندم واستغفر ، إلا أنّ آخر ما تقدّم فقد افترى إثما عظيما ، وآخر هذه فقد ضل ضلالا بعيدا ختمت كل آية بما يناسبها. فتلك كانت في أهل الكتاب ، وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول صلىاللهعليهوسلم ، ووجوب اتباع شريعته ، ونسخها لجميع الشرائع ، ومع ذلك قد أشركوا بالله مع أن عندهم ما يدل على توحيد الله تعالى والإيمان بما نزل ، فصار ذلك افتراء واختلاقا مبالغا في العظم والجرأة على الله.
وهذه الآية هي في ناس مشركين ليسوا بأهل كتب ولا علوم ، ومع ذلك فقد جاءهم بالهدى من الله ، وبان لهم طريق الرشد فأشركوا بالله ، فضلوا بذلك ضلالا يستبعد وقوعه ، أو يبعد عن الصواب. ولذلك جاء بعده : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) (١) وجاء بعد تلك : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) (٢) وقوله : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) (٣) ولم يختلف أحد من المتأولين في أنّ المراد بهم اليهود ، وإن كان اللفظ عاما. ولما كان الشرك من أعظم الكبائر ، كان الضلال الناشئ عنه بعيدا عن الصواب ، لأن غيره من المعاصي وإن كان ضلالا لكنه قريب من أن يراجع صاحبه الحق ، لأن له رأس مال يرجع إليه وهو الإيمان ، بخلاف المشرك. ولذلك قال تعالى : (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (٤) وناسب هنا ذكر الضلال لتققدم الهدى قبله.
(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) المعنى : ما يعبدون من دون الله ويتخذونه إلها إلا مسميات تسمية الإناث. وكنى بالدعاء عن العبادة ، لأنّ من عبد شيئا دعاه عند حوائجه ومصالحه. وكانوا يحلون الأصنام بأنواع الحلي ، ويسمونها أنثى وإناث ، جمع أنثى كرباب جمع ربى. قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : المراد الخشب والحجارة ، فهي مؤنثات لا تعقل ، فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث من الأشياء. فيجيء قوله : إلا إناثا ، عبارة عن الجمادات. وقال أبو مالك والسدي وابن زيد وغيرهم : كانت العرب تسمي أصنامها بأسماء
__________________
(١) سورة النساء : ٤ / ١١٧.
(٢) سورة النساء : ٤ / ٤٩.
(٣) سورة النساء : ٤ / ٥٠.
(٤) سورة الحج : ٢٢ / ١٢.