لك إذ كذبوك ، واتهموا نصيحتك ، فقتلهم ثم لحق بأرض بابل ، فأقام إرميا بمصر ، واتخذ بها جنينة وزرعا يعيش منه. فأوحى الله تعالى إليه : إن لك عن الزرع والمقام بأرض مصر شغلا ، فكيف تسعك أرض وأنت تعلم سخطي على قومك ولا يحزنك هذا البلاء الذي يصبّ على إيلياء وأهلها ، فالحق بها حتى يلغ كتابي أجله ، فإنّي رادّ بني إسرائيل تارة أخرى إلى الأرض المقدسة ، ومستنقذهم من عدوهم وناظر كيف يعملون. فخرج أرميا مذعورا حتى أتى بيت المقدس ، فأوحى الله إليه : سأعمره وأرفعه ، وإني باعث ملكا يقال له كورش (١) من أرض فاقرس ، حتى ينزل بقومه ورجاله حتى يعمرها ، ويبني قصورها ومساجدها ، ويكشف عن أنهارها ، ويغرس أعنابها ونخلها وزيتونها ، فتوجه كورش إليها في جمع له ومعه ثلاثون ألف قيّم يستعملون الناس ، كل قيّم على ألف عامل ومعهم ما يحتاجون إليه ، ولما رأى إرميا عمارتها سأل ربه أن يقبضه إليه ، فمات إرميا ، وأنقذ الله بني إسرائيل ، بعد مائة سنة ، من أرض بابل على يدي دانيال.
وقال كعب :
كان سبب استنقاذ بني إسرائيل من أرض بابل أن بخت نصّر لما من بيت المقدس بالأسارى ، وفيهم دانيال وعزير وأربعة وصفاء غلمان لم يبلغوا الحلم غير دانيال ، واتخذ بني إسرائيل خولا (٢) زمانا طويلا ، وإنه رأى رؤيا فزع منها ، فدعا كهنته وسحرته ، فأخبرهم بما أصابه من الكرب بما في رؤياه ، وسألهم أن يعبروها (٣) له ، فقالوا له : قصّها علينا. قال : قد أنسيتها فأخبروني بتأويلها. فقالوا : إنا لا نقدر على أن نخبرك بتأويلها حتى تقصها علينا ، فغضب ، وقال لهم : اخترتكم واصطفيتكم لمثل هذا ، اذهبوا فقد أجّلتكم ثلاثة أيام ، فإنّ أتيتموني بتأويلها وإلّا قتلتكم ، وشاع ذلك في الناس ، فبلغ دانيال وهو مسجون. فقال لصاحب السجن وهو إليه محسن : هل لك أن تذكرني للملك فإن عندي علم رؤياه. وإنّي لأرجو أن تنال بذلك عنده منزلة تكون سبب عاقبتي. قال له صاحب السجن : إنّي أخاف عليك سطوة الملك ، لعل غمّ السجن حملك على أن تتروّح (٤) بما ليس عندك فيه علم ، مع
__________________
(١) في تاريخ الطبري ١ / ٣١٩ كيرش ابن أخشويرش.
(٢) الخول : النعم والعبيد والإماء وغيرهم من الحاشية (القاموس).
(٣) عبر الرؤيا يعبرها عبرا ، وعبّرها تعبيرا : فسّرها وأخبر بما يؤول. (تاج العروس : عبر).
(٤) يقال : تروح الماء إذا أخذ ريح غيره لقربه منه (تاج العروس : روح).