ألا ترى أنك تقول : جاءني اثنان وثلاثة ولا يجوز أن تقول جاءني مثنى وثلاث حتى تقدم قبله جمعا لأنه جعل بيانا لترتيب الفعل.
فإذا قال القائل : جاءني القوم مثنى أفادنا أن ترتيب مجيئهم قد وقع اثنين اثنين ، وأما الأعداد نفسها فإنما الغرض فيها الإخبار عن مقدار المعدود دون غيره فقد بان بما ذكرناه اختلافهما في المعنى فلذلك جاز أن تقوم العلّة مقام علتين لإيجابها حكمين مختلفين.
ووجه ثالث : أن الظاهر في هذه الأعداد المعدولة أن تكون معدولة من المؤنث ، فإذا كان المعدول من المؤنث الذي لا هاء فيه كان أخف ، فصار معنى التأنيث الذي فيها مع الصفة علتين ، فلذلك لم ينصرف ، فأما (آخر) فالذي أوجب أن يكون معدولا عن الألف واللام أن الواحدة منه أخرى مثل الفعلى وباب الفعلى والأفعل تستعمل بالألف واللام أو بمن كقولك : زيد أفضل من عمرو ، وإن شئت قلت : زيد الأفضل ، فكان القياس أن يقال : زيد آخر من عمرو كما يقال : أقدم من عمرو ، إلا أنهم حذفوا (من) والسبب في ذلك أن معنى الآخر بعد أول فلما صار لفظها مقتضيا لمعنى (من) أسقطوا (من) اكتفاء بدلالة اللفظ عليها ، والألف واللام تعاقب (من) فلما جاز استعمالها بغير (من) جاز استعمالها أيضا بغير ألف ولام فصار الآخر والأخرى معدولين عن حكم نظائرهما ؛ لأن الألف واللام استعملا فيها ثم حذفا ، والدليل أن العدل إنما كان على طريق الذي ذكرناه دون الآخر والأخرى أنه لو كان الآخر والأخرى قد استعملا بالألف واللام ثم عدلا عن الاستعمال لوجب أن يبقى حكم التعريف بالألف واللام فيهما كما أن (سحر) لما عدل عن استعمال الألف واللام بقي معرفة فدل تنكير آخر وأخرى أنهما لم يعدلا ما استعمل فيه ، وإنما عدلا عن نظائرهما.