سورة البقرة كيف يأتي قوله تعالى (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا ..) وبهذا استكملت الحجة على اليهود والنصارى ، في زعمهم أن الهداية عندهم و (أم) على القول الراجح معادلة للهمزة في (أتحاجوننا) ، يعني : أي الأمرين تأتون؟ المحاجة في الله ، أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء المذكورين ، فإذا حاججتمونا في الله تبين أننا المهتدون ، وإذا ادعيتم أن الهداية محصورة في اليهودية والنصرانية فهذا كذب ، فهل كان هؤلاء المذكورون على يهودية أو نصرانية؟ ولا يهودية إلا من بعد موسى ، ولا نصرانية إلا من بعد عيسى ، فالهداية إذن هداية الله التي يخص بها من شاء ، الأمر أمره والوحي وحيه ، ثم قال : (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) بل الله أعلم بمن اهتدى ، وأعلم بمن يهدي ، وأعلم بخبر أنبيائه المذكورين ، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى. قال الألوسي : أي لستم أعلم بحال إبراهيم عليهالسلام في باب الدين ، بل الله تعالى أعلم بذلك ، وقد أخبر سبحانه بنفي اليهودية والنصرانية عنه ، واحتج على انتفائهما عنه بقوله (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) وهؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا ، فحالهم حاله فلم تدعون له ولهم ما نفى الله تعالى؟ فما ذلك إلا جهل غال ولجاج محض ، ثم قال تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) أي : لا أحد أظلم ممن كتم شهادة ثابتة عنده ، واصلة من الله إليه ، وهي شهادته تعالى لإبراهيم بالحنيفية ، أو شهادتهم التي عليهم أن يؤدوها في حق محمد صلىاللهعليهوسلم الذي بشرت به التوراة والإنجيل ، وعلى كل فالآية فيها تعريض بهم ؛ إذ إنهم يعرفون أن محمدا رسول الله ، بشرت به التوراة والإنجيل ، وكان عليهم أن يشهدوا له ويتابعوه فلم يفعلوا فليس أشد في الظلم من هذا ، أن يكتم الشهادة الشهود.
عرفوه وأنكروه وظلما |
|
كتمته الشهادة الشهداء. |
وهم يعرفون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ... كانوا على الإسلام لله ، وهم يكتمون هذا ، ويدعون أن هؤلاء كانوا يهودا أو نصارى ، فلا أظلم منهم ، حملهم الله الشهادة فكتموها ، أو شهد الله في كتبهم على أشياء فأنكروا شهادة الله ؛ فمن أظلم منهم؟ لا أحد (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من تكذيب الرسل ، وكتمان الشهادة ، والدعوة إلى الباطل ، وادعاء الهداية ، وصرف الناس عن الدين الحق ، هذا تهديد ووعيد لأهل الكتاب ، أي : إن الله تعالى لا يترك أمركم سدى ، بل هو محصل لأعمالكم ، محيط بجميع ما تأتون وتذرون ، فيعاقبكم بذلك أشد عقاب. وبنفس الخاتمة التي ختمت بها الفقرة السابقة تختم هذه الفقرة. (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ