إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) كلّ ما تقومر به (وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ) قد سبقا في اوّل السّورة (رِجْسٌ) قذر تستكرهه العقول (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أكّد الحرمة بأداة الحصر ، واطلاق الرّجس عليها وكونها من عمل الشّيطان والأمر بالاجتناب فانّه يفيد التّأكيد بالنّسبة الى النّهى عن الفعل والمقصود هاهنا النّهى عن الخمر والميسر ، وقرنهما بالانصاب والأزلام مبالغة في حرمتهما ولذلك لم يذكر في بيان الغاية سواهما ، وذكر غايتهما والمفسدة الّتى تترتّب عليها مبالغة اخرى في حرمتهما فقال (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) هذا بحسب الدّنيا (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) وهذا بحسب الآخرة ، وذكر الصّلوة بعد الذّكر من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ للاشارة الى انّهما صادّان عمّا هو عماد الدّين ليكون أبلغ في المنع (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) أداء الأمر بصورة الاستفهام لا الحكم تلطّف بهم يعنى بعد ما ذكر من المفاسد والأوصاف في الخمر والميسر ينبغي لكم ان تنتهوا ان تأمّلتم فيها (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في خصوص النّهى عن الاربعة المذكورة أو في كلّ ما أمرتم ونهيتم عنه ، والعمدة في الكلّ وغايته الأمر بالولاية أو في الأمر بالولاية مخصوصا فانّ الاطاعة فيه غاية جميع الطّاعات ومستلزم لجميع الطّاعات (وَاحْذَرُوا) عن عقوبة مخالفتهما (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عنهما (فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) فلا يرد من تولّيكم منقصة عليه وقد بلّغ ما امر بتبليغه (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) هذه الجمل في مقام التّعليل للأمر بالاجتناب والطّاعة ، اعلم انّ للإنسان من اوّل تميزه الى آخر مراتبه تطوّرات ونشأت ، وبحسب كلّ نشأة له اعمال وإرادات وشرور وخيرات وللسّالك الى الله من بدو سلوكه الى آخر مراتبه الغير المتناهية مقامات ومراحل واسفار ومنازل ، والتّقوى تارة تطلق على التّحفّظ عن كلّ ما يضرّ للإنسان في الحال أو في المآل وهو معناها اللّغوىّ ، وبهذا المعنى تكون قبل الإسلام وقبل الايمان ومعهما وبعدهما ، وتارة تطلق على التّحفّظ عمّا يصرفه عن توجّهه الى الايمان ، وبهذا المعنى تكون مع الإسلام وقبل الايمان ومع الايمان لكن في مرتبة الإسلام فانّه ما لم يسلم لم يتصّور له توجّه واهتداء الى الايمان حتّى يتصوّر صارف له عن الايمان وحفظ عن ذلك الصّارف ، والتّقوى بهذا المعنى عبارة عن تحفّظ النّفس عن جملة المخالفات الشّرعيّة ، وتارة تطلق على ما يصرفه عن الطّريق الموصل له الى غايته ويدخله في الطّريق الموصلة الى الجحيم ، وبهذا المعنى لا تكون قبل الايمان لانّه لم يكن حينئذ في الطّريق بل تكون مع الايمان الخاصّ الّذى به يكون الوصول الى الطّريق ، والايمان قد يطلق على الإذعان وهو معناه اللّغوى وقد يطلق على ما يحصل بالبيعة العامّة وهو الايمان العامّ المسمّى بالإسلام ، وقد يطلق على ما يحصل بالبيعة الخاصّة الولويّة وهو الايمان الحقيقىّ ، وقد يطلق على شهود ما كان موقنا به وهو الايمان الشّهودىّ وقد سبق في اوّل سورة البقرة تحقيق وتفصيل للايمان ، والتّقوى وصلاح العمل بخروج الإنسان من امر نفسه في العمل ودخوله تحت امر آمر الهىّ ، وفساده بدخوله تحت امر نفسه ، والجناح بمعنى الحرج والإثم ، والطّعم كما يطلق على الاكل والشّرب الظّاهرين يطلق على مطلق الفعل ومطلق الإدراك من الجزئيّة والكلّيّة ففعل القوى المحرّكة أكلها ،