وهو لا ينتفع بتفصيل الآيات ، لانّ نظره الى الآيات من حيث أنفسها ، أو من حيث جهاتها الدّنيويّة لا من حيث انّها آيات دالّات على الله وعلى أمور الآخرة ، كما نقل عن الصّادق (ع) انّه قال لأبي حنيفة في جملة كلامه : وما أراك تعرف من كتابه حرفا ، ومن توسّل بهم بالايتمام بالبيعة الولويّة وان لم يكن قرأ حروف التّهجّى فهو عالم عارف وهو المنتفع بالآيات وتفصيلها ، لانّ نظره الى الأشياء الآفاقيّة والانفسيّة من حيث صدورها عن الله ودلالتها عليه ، ولمّا أباح لهم الاكل والشّرب واكّد ذلك باختصاص الزّينة وطيّبات الرّزق بهم أراد ان يأمر نبيّه (ص) ببيان المحرّمات بالّذات والموجبات لحرمة المباحات بالعرض ، ليتبيّن الطّيّب من غير الطّيّب فقال تعالى (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فذكر تعالى بطريق الحصر خمسة أشياء راجعة الى ثلاثة هي أصول المحرّمات ، اعلم ، انّ الله خلق الإنسان من نطفة ضعيفة غير حافظة لصورتها وأودع فيها لطيفة سيّارة سالكة الى الله بقدم الصّدق على الطّريق المستوى والخطّ المستقيم عن الجماديّة الّتى هي انزل مراتب المواليد الى النّباتيّة ثمّ منها الى الحيوانيّة ، ثمّ الى البشريّة الّتى هي ملكوت بين الملكوتين السّفليّة الّتى هي دار الشّياطين والجنّة وسجن المتكبّرين والمعّذبين من الآدميّين ، والعلويّة الّتى هي دار الملائكة ذوي الاجنحة ودار السّعداء وأصحاب اليمين ، فاذا استحكم علمه بعلمه وشعوره بشعوره وتقوّى إرادته واختياره وتميّزه بين الخير والشّرّ الحقيقيّين ، استعدّ لقبول التّكليف والدّعوة النّبويّة ، فان ساعده التّوفيق وتداركه الدّعوة النّبويّة وقبل تلك الدّعوة وانقاد تحت حكم الدّاعى صار مسلما ومشرفا على التّوحيد الحقيقىّ والايمان وقبول الدّعوة الباطنة الولويّة ، ويسمّى حينئذ مؤمنا وموحّدا باعتبار اشرافه على الايمان والتّوحيد ، وان لم يتداركه الدّعوة العامّة أو لم يقبلها أو لم يعمل على مقتضاها حتّى أبطل استعداده القريب للدّعوة الخاصّة واختفى طريق القلب وأماراته وطريق التّوحيد وعلاماته ، أو لم يبطل استعداده القريب لقبول الدّعوة الخاصّة وبقي له استعداد قريب لذلك لكن لم يخرج تلك القوّة والاستعداد الى الفعل بعد وتوجّه تارة الى ما اقتضاه استعداده وطلب ما يدلّه على طريق القلب ويخرجه من القوّة الى الفعل ، وتارة الى ما اقتضته نفسه واهويتها من مشتهيات الحيوانيّة لم يكن حينئذ مؤمنا موحّدا لا حقيقة ولا مجازا ، بل كان كافرا إذا لم يبق له استعداد قريب ، سواء أقرّ بدين وكتاب ونبىّ وسمّى مسلما ومؤمنا أم لم يقرّ وسمّى كافرا ، أو كان مشركا إذا بقي له استعداد سواء أشرك بالله في الظّاهر صنما وكوكبا وغيرهما أم لا ، وسواء اقرّ بدين ونبىّ أم لا ، وسواء بايع نبيّا أو وليّا بالبيعة العامّة أو الخاصّة أم لا ، وسواء اتّصل أو اعتقد بأئمّة الجور ومظاهر الشّياطين أم لا ، وبهذا المعنى فسّر الكفر والشّرك في الآيات بالكفر بالولاية والشّرك بالولاية وهذان غير الكفر والشّرك الظّاهرين لجواز اتّصاف المسلم والمؤمن بهما ، والكافر بهذا المعنى مطيع للنّفس والشّيطان ، وأفعاله ليست الّا من طاعتهما وهكذا أخلاقه ، وهي امّا متناهية في القبح بحيث يعدّها الشّرع والعقل والعرف قبيحة ، كالزّنا واللّواط والسّبعيّة المفرطة والشّرّه المفرط ممّا يستقبحه كلّ أحد ويستخفى فاعله حين الفعل من النّاس حتّى من أمثاله وتسمّى بالفواحش ، وافعال الجوارح الّتى كانت كذلك هي الفواحش الظّاهرة ورذائل النّفس هي الفواحش الباطنة ، وقد يسمّى بعض افعال الجوارح بالباطنة إذا صارت عادة بحيث لا يستخفى فاعلها عن الخلق ، كنكاح زوجة الأب الّذى كان في الجاهليّة وكنكاح المحارم الّذى كان بين الهنود ، وكالتّجسّس والغيبة والتّهمة والتّنابز بالألقاب مع انّها اشدّ من نكاح المحارم الّتى شاعت بين المسلمين ، لانّ كونها فاحشة مختف عن انظار أمثال فاعلها ، وقد يفسّر الفاحشة الباطنة بالّتى