واقفين في هذا السّفر حائرين لا يمكنهم الرّجوع ولا الوقوف على مقامهم الحيوانىّ ، لما أيقنوا من انّ ذلك المقام من مقامات الجحيم ولما رأوا لأنفسهم فيه من العذاب الأليم ولا يمكنهم التّجاوز والسّير الى ما فوقه لكثرة المتاعب وضعف يقينهم وقلّة التذاذهم بالمقامات الانسانيّة وضعف نفوسهم عن التحمّل وقوّة قويهم في طلب مقتضياتها ، والعابدون اشارة الى مقاماتهم الحقّيّة الخلقيّة ، لانّ العبوديّة هي السّير في المقامات الانسانيّة وعلى المراحل الرّوحانيّة الى الانتهاء الى حضرة الأسماء والصّفات ، وهو السّفر الثّانى من الاسفار الاربعة اى السّفر من الحقّ الى الحقّ ، و (الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) اشارة الى مقاماتهم الحقّيّة اى السّير في حضرة الأسماء والتّمكّن في التّحقّق بحقائق الصّفات الالهيّة ، وهو السّفر الثّالث اى السّفر بالحقّ في الحقّ ، و (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) اشارة الى مقاماتهم الالهيّة ومراتبهم الرّبوبيّة اى السّير في المظاهر الالهيّة متّصفين بصفات الرّبوبيّة مبدّلين للخلقيّة بالحقّيّة ناظرين الى المظاهر الى كلّ في مرتبته معطين لكلّ ذي حقّ حقّه ، وهو آخر الاسفار الاربعة يعنى السّفر بالحقّ في الخلق. وبيان هذه الاسفار ومقاماتها وما يرد فيها وما يشاهد منها من الآيات ممّا يضيق عنه بيان البشر ولا يسعه هذا المختصر ، وإجمال القول فيها : انّ الإنسان في زمان الصّبا الى أوان البلوغ حيوان كالخراطين والدّيدان أو كالبهائم والسّباع لا يدرى من الخيرات الّا ما اقتضته القوى الحيوانيّة ولا من الشّرور الّا ما تستضرّ به ، وبعد بلوغ الاشدّ وظهور اللّطيفة الانسانيّة وتميز الخيرات والشّرور العقليّة الانسانيّة ، امّا يقف على الحيوانيّة باقيا فيه شيء من الانسانيّة ، أو يهوى عن الحيوانيّة الى أسفل السّافلين مهلكا للطّيفة الانسانيّة ، أو ينزجر عن الحيوانيّة ويرغب في الخيرات الانسانيّة متدرّجا فيه الى ان يطلب من يبيّن له طريق جلب خيراته ودفع شروره الانسانيّة ، لانّه خارج عن ادراك مداركه الحيوانيّة غير مدرك بمداركه العقليّة لضعفها ، وذلك التّدرّج في الانزجار وان كان توبة وانابة لغة لكنّه لا يسمّى عند أهل الله توبة ولا انابة ، لانّ التّوبة والانابة عندهم اسم للرّجوع عن الحيوانيّة الى الانسانيّة الالهيّة ولخفاء طريقها كثيرا ما يقع الرّاجع عن الحيوانيّة الى حيوانيّة أو شيطانيّة بتدليس الشّيطان وظنّه انّها خيرات انسانيّة فيقع فيما فرّ منه ، فما لم يظهر صحّة رجوعه عن الحيوانيّة الى الانسانيّة لم يطلق عليه اسم التّوبة وصحّة الرّجوع عن الحيوانيّة الى الانسانيّة لا تظهر الّا بقبوله من الله ، وقبوله من الله لا يظهر الّا بقبول خلفاءه وهم المظاهر الانسانيّة والكاملون الفارقون ببصيرتهم بينها وبين الحيوانيّة ، فاذا وصل الى نبىّ أو ولىّ وتاب هو عليه وهي توبة الله عليه واستغفر له في البيعة العامّة النّبويّة وقبول الدّعوة الظّاهرة صدق على رجوعه التّوبة والانابة بجهتيه وصار تائبا ، وبتلك التّوبة لا يحصل له الّا خيراته القالبيّة المؤدّية الى خيراته الانسانيّة ولا يلتذّ بها بل لا يرى فيها الّا التّعب والكلفة ولا يسكن حرارة طلبه للخيرات الانسانيّة ولا يتمّ توبته ، فاذا طلب ووجد وتاب بالتّوبة الخاصّة في البيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة ودخول الايمان في القلب وهناك يتمّ صورة توبته فقد يلتذّ بانمودج خيراته الانسانيّة ، لكنّه ما لم يخرج من ملكه ولم يلج ملكوت السّماوات ولم يشاهد ملكوت شيخة كان تائبا ولم يخلص له اللّذّات الانسانيّة وكان بعد في تعب وكلفة وضيق لا يرضى بحال من أحواله ويتقلّب في الأحوال ، حتّى يشاهد ملكوت الشّيخ ويسكن الشّيخ في ارض صدره ويتمكّن له دينه الّذى ارتضاه له وحينئذ يتمّ سيره من الخلق الى الحقّ ، فانّ ملكوت الشّيخ هي الحقّ بحقّيّة الحقّ الاوّل ويصير حينئذ سالكا الى الله ، لانّه كان قبل ذلك سالكا الى الطّريق ويصير عبدا خارجا من رقّيّة نفسه داخلا في رقّيّة الله ويصير فعله أيضا فعل العبد حيث تمكّن الشّيخ في وجوده وصار بالنّسبة الى شيخة كالملائكة بالنّسبة الى الحقّ