قوله : فأراد ربّك فتبرّء من الانانيّة في آخر القصص ونسب الارادة كلّها الى الله تعالى ذكره في ذلك لانّه لم يكن بقي شيء ممّا فعله فيخبر به بعد ويصير موسى (ع) به مخبرا ومصغيا الى كلامه تابعا له فتجرّد من الانانيّة والارادة تجرّد العبد المخلص ثمّ صار متنضّلا ممّا أتاه من نسبة الانانيّة في اوّل القصّة ومن ادّعاء الاشتراك في ثانى القصّة فقال رحمة من ربّك وما فعلته عن أمرى فقوله (ع) لانّه لم يكن بقي شيء ممّا فعله فيخبر به يعنى لم يكن بقي شيء ممّا فعله فيخبر به حتّى يحتاج الى وساطته ويراه واسطة بل تجرّد نظره الى الله واستغنى عن الواسطة وفي قوله ويصير موسى (ع) به مخبرا ومصغيا الى كلامه تابعا له ، اشارة الى انّه استغنى عن الشّيخ والواسطة واستكمل في جهة نقصه وتعلّم ما يحتاج الى تعلّمه (ذلِكَ) المذكور من بيان حكمة كلّ ممّا رأيته (تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) اى حقيقته وحكمته فانّ التّأويل كثيرا ما يستعمل فيما يئول اليه أو إرجاع ما لم تسطع الى حقيقة صحيحة وحكمة مقتضية من مصدره وغايته ، وأسقط التّاء من لم تسطع هاهنا اشعارا بظهور نقصان طاقته عن الصّبر عليه ولم يسقط التّاء عمّا سبق من قوله لن تستطيع في الموارد وقوله (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ) لعدم ظهور نقصان الاستطاعة بعد على موسى (ع) بل كان مدّعيا للاستطاعة كما روى عنه (ع) انّه قال بل أستطيع (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) ورد في سبب نزوله ما سبق في سبب نزول قصّة أصحاب الكهف ، وورد انّه سأله (ص) نفر من اليهود عن طائف طاف المشرق والمغرب.
اعلم ، انّ المسمّى بذي القرنين كان اثنين أكبر وأصغر وكلاهما ملكا في الأرض وانّ ذا القرنين الأكبر هو الّذى كان عبدا صالحا نبيّا أو غير نبىّ وهو الّذى طاف المشرق والمغرب وبنى سدّ يأجوج ومأجوج ، وهو كان غلاما من أهل الرّوم وكان ابن عجوز فقيرة وهبه الله تعالى الملك والسّلطنة ، وورد انّه سمّى بذي القرنين لانّه بعث في قومه فدعاهم الى الله فضربوه على قرنه الأيمن فأماته الله أو غاب عنهم على اختلاف الرّوايات خمسمائة عام أو مائة عام أو مدّة على اختلاف الرّوايات أيضا ، ثمّ بعثه الله فدعا الى الله فضربوه على قرنه الأيسر فأماته أو غاب عنهم في المدّة المذكورة ، ثمّ بعثه الله تعالى فملك المشرق والمغرب ، وورد أيضا انّه عوّضه الله في مكان الضّربتين على رأسه قرنين أجوفين وجعل عزّ ملكه وآية نبوّته في قرينه ، ثمّ رفعه الله الى السّماء الدّنيا فكشط له عن الأرض كلّها جبالها وسهولها وفجاجها حتّى ابصر ما بين المشرق والمغرب وآتاه الله من كلّ شيء سببا فعرف به الحقّ والباطل وايّده في قرنيه بكسف من السّماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، ثمّ أهبطه الى الأرض واوحى اليه سر في ناحية غربىّ الأرض وشرقيّها فقد طويت لك البلاد وذلّلت لك العباد فأرهبتهم منك وذلك قول الله تعالى انّا مكنّا له في الأرض ، وورد أيضا انّه رأى في المنام كأنّه دنا من الشّمس حتّى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها فلمّا قصّ رؤياه على قومه وعرفهم سمّوه ذا القرنين فدعاهم الى الله فأسلموا ، وذكر في التّواريخ انّه لمّا طاف المشرق والمغرب سمّى ذا القرنين. وقيل : انّه لمّا كان كريم الطّرفين أبا وامّا سمّى ذا القرنين ، وقيل : كان له ضفيرتان من طرفي رأسه ولذلك سمّى ذا القرنين ، وقيل : كانت صفحتا رأسه من صفر أو من نحاس أو من حديد أو من ذهب ولذلك سمّى ذا القرنين. وقد اختلف الاخبار في نبوّته وعدمها واسمه كان عبد الله بن الضحّاك ولقبه كان عيّاشا ، واختلاف الاخبار في باب قرنيه ونبوّته يشعر بالتّأويل خصوصا ما ذكر في الاخبار من قولهم (ع) : وفيكم مثله مشيرين الى أنفسهم ، فانّه كلّما ذكر لشخص في العالم الكبير فهو جار فيه في نوعه ، وكلّما كان في العالم الكبير شخصا أو نوعا فهو جار في العالم الصّغير ، وقد اختلف الاخبار والتّواريخ في زمان ظهوره فانّه ذكر انّه كان بعد زمان نوح (ع) ، وذكر انّه كان معاصرا لإبراهيم (ع) ، وذكر انّه كان بعد عيسى (ع) (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) اى ما يتذكّر به وهو قوله تعالى (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ)