من الأرزاق الارضيّة الدّنيويّة البدنيّة ، أو المراد بكليهما أكل الرّوح فانّ المؤمن بالبيعة الولويّة وقبول الولاية يفتح له باب القلب ، فاذا انفتح باب القلب فكلّما حصل له من الأرزاق النّباتيّة والعلوم الحسيّة والكسبيّة الّتى هي من السّفل وكذا العلوم الحاصلة له بمحض الافاضة الالهيّة المسمّاة بالعلوم اللّدنيّة تكون غذاء روحه لا غذاء نفسه وشيطانه ، لما مرّ سابقا انّ أسماء الأشياء أسماء لفعليّاتها الاخيرة ، ومن اقام التّوراة والإنجيل اقرّ بمحمّد (ص) ومن اقرّ بمحمّد (ص) اقرّ بالولاية ومن اقرّ بالولاية صار فعليّته الاخيرة فعليّة الولاية ، ومن صار فعليّته الاخيرة فعليّة الولاية صار جميع ما حصل له من العلوم والأعمال غذاء لفعليّة الولاية (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) خارجة عن تفريط اليهود وافراط النّصارى وداخلة في الطّريق المقتصد المحمّدىّ (ص) (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) لخروجهم عن الاقتصار الى أحد طرفيه (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) عنهم (ع) كان هناك : في علىّ ؛ فأسقطوه (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) خوفا من افتتان أمّتك وفتنتك بهم (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) لانّ الولاية غاية الرّسالة فان لم تحصل كانت الرّسالة كأن لم تحصل (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فلا يكن خوف فتنتك منهم مانعا من التّبليغ (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) الى مرادهم من السّوء بك يعنى لا يخلّى بينهم وبين مرادهم. هذه الآية وآية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) قد روى من طريق الخاصّة بطرق كثيرة انّهما في ولاية علىّ (ع) ونزولهما كان في حجّة الوداع قبل منصرفه (ص) أو بعده (ص) الى غدير خمّ ، وهذه السّورة بتمام آيها آخر ما نزلت ولم ينزل بعدها شيء من القرآن ، والخطب الّتى خطب النّبىّ (ص) بها في مكّة ومسجد الخيف وغدير خمّ مذكورة من طريقهم في المفصّلات من التّفاسير وغيرها ، ومتأخّروا مفسّرى العامّة اكتفوا في تفسير هذه الآية بظاهر اللّفظ وفسّروها هكذا يا ايّها الرّسول بلّغ جميع ما انزل إليك من ربّك وان لم تفعل اى تبليغ الجميع فما بلّغت شيئا من رسالته على قراءة رسالته بالافراد أو ما بلّغت جميع رسالاته على قراءة رسالاته بالجمع ، ونزول الآية لو كان في اوّل التّبليغ كان لهذا التّفسير وجه ، ولمّا كان نزول الآية في آخر التّبليغ كما عليه الشّيعة أو بعد الهجرة كما عليه الكلّ لم يكن لهذا التّفسير موقع ، لانّه قبل نزول الآية كان قد بلّغ أكثر التّكاليف وبقي بعضها فان كان الباقي مثل ما بلّغ سابقا من احكام القالب لم يكن يخاف من التّبليغ ولا يتأمّل فيه حتّى يصير معاتبا بتركه ، لانّه كان قد بلّغ أكثر الأحكام حين الانغمار وغلبة المشركين ولم يخف منهم فكيف يخاف حين ظهور سلطانه وقبول احكامه ، فينبغي ان يكون خوفه من أمّته وافتتان اتباعه ولا يكون الّا إذا كان الأمر المأمور هو بتبليغه امرا عظيما ثقيلا على اسماع الامّة ، حتّى يخاف (ص) من عدم قبولهم وارتدادهم ويخاف على نفسه أيضا من الأذى والقتل ، ويتأمّل في التّبليغ ويتردّد فيه فيصحّ من الله مجيء العزيمة والأمر البتّى (١) فيه والعتاب والتّهديد على تركه ووعد العصمة من النّاس في تبليغه ، ومن أنصف من نفسه علم انّ هذا الأمر لا يكون من جنس الصّوم والصّلوة ولا الحجّ والزّكاة ولا الخمس والجهاد ولا سائر العقود والمعاملات بل امرا خارجا من جنس تلك الأحكام ولا يتصوّر الّا ان يكون ذلك الأمر نصب شخص للامارة عليهم بعده وادخالهم تحت حكمه مع كونه مبغوضا لهم ، وما ادّعى هذا لأحد الّا لعلىّ (ع) وقد قال (ص) باتّفاق الفريقين : من كنت مولاه فعلىّ مولاه ، وتأويلهم هذا بالمحبّ كما أوّلوه بعيد عن الإنصاف غاية البعد ، وكلامنا مع المنصف لا مع المتعصّب المنحرف فانّه لا كلام لنا معه ولا كتاب والله المتفضّل بالتّوفيق والصّواب. هذا مع قطع النّظر عمّا ثبت وورد بطريق الخاصّة والعامّة في حقّه (ع) ممّا يدلّ على استحقاقه (ع) خلافة النّبىّ (ص)
__________________
(١) بتّ الأمر أمضاه وبتّ النيّة جزمها.