والجواب والله الموفق : أنه قد ثبت بالأدلة القاطعة المضطرة لأهل العقول أن الله سبحانه هو المركّب للجنين والمصوّر له كيف شاء (١) لما اشتمل عليه من دقائق الحكمة التي تبهر العقول ، والذي يصلح أن نبين هاهنا وجه الحكمة في إجراء ما أجراه الله من العادة وإن كان لا يلزم منا ذلك ، لأنه إذا ثبت أن الله تعالى حكيم فلا يلزم منا معرفة وجه الحكمة في جميع مخلوقاته فنقول : إن الحكمة فيه من وجوه :
منها : أنه تعالى لو خلق البشر من غير هذا الوجه لبطل التعارف بالأنساب لأن التعارف بين الناس يحصل أكثره بأن يقال : فلان بن فلان ، ولو خلق ابتداء لبطل هذا التعارف وفي بطلانه سقوط المعاملات والمصالح الكبيرة بين الناس.
ومنها : لو لم يكن توالد لبطلت صلة الرّحم ، وزال تعطف القرابات والتناصر للأرحام الواشجة ، فيبطل تلذّذ الآباء بالأبناء وتعزّز الأبناء بالآباء وفي هذا زوال مصالح كثيرة من العالم يطول تفصيلها.
ومنها : أن العاقل قد أمر بالتواضع واجتناب الكبرياء ، وأجريت العادة على ما يكون ادّعاء إلى التواضع ، لأن العاقل إذا علم أنه خلق من نطفة قذرة وسار من (٢) مخرج البول مرّة بعد مرة ونشأ من نجاسة يتغذّى منها وينبت لحمه وعظمه منها كان هذا كاسرا لشرّته.
وقد نبّه الله سبحانه وتعالى على هذا فقال : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٣) ... الآية وغيرها من الآيات المنبّهة على ذلك وكذلك القول في الثمار والأشجار والحبوب لا تنبت إلّا عند شروط مخصوصة من بذر وسقي وغرس في موضع تطلع الشمس عليه فالجواب فيه كالجواب في خلق الإنسان ، وهو أن في ذلك من المصالح ما لا يخفى لأن الله سبحانه خلق الدنيا للتكليف والامتحان.
__________________
(١) (ب) يشاء.
(٢) (ض) في.
(٣) المرسلات (٢٠).