إذ المعتزلي يقول : جاز أن يكون خصوصية بعض المعدومات الثابتة المتميّزة مانعة من تعلق القدرة. والحكيم يقول : جاز أن تستعد المادة لحدوث ممكن دون آخر.
وعلى هذين التقديرين لا يكون نسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء.
ولما كان هذا الاستدلال لا يخلو عن ضعف لابتناء دليله على أمر مختلف فيه يمنعه الخصم أشار المصنف إلى ذلك بقوله : (ويؤنسه) أي : يؤنس هذا الدليل العقليّ (في أفعال غير العقلاء) أي : يقويه ويقربه بالنسبة إليها (استبعاد استقلال العنكبوت والنحل بما يصدر عنها ؛ من غريب الشكل ولطيف الصناعة ممّا قد يعجز عنه بعض العقلاء) من نسج العنكبوت الذي يصل في الصفاقة إلى أن لا يتبين شيء من الخيوط الواهية التي تركب منها ، وبناء النحل الشمع على الشكل المسدس الذي لا خلاء بين أضلاع بيوته ولا خلل فيها ، ثم إلقاء العسل به أوّلا فأوّلا إلى أن تمتلئ البيوت ثم يختم بالشمع على وجه يعمها في غاية من اللطف ، (فكان ذلك) الصنع الغريب والفعل الواقع على غاية من الإتقان وحسن الترتيب واقعا (منه سبحانه وصادرا عنه) دون تلك الحيوانات التي لا عقول لها ولا علم بتفاصيل ما يصدر عنها.
ولما قرّر أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، وكان مذهب أهل الحق أنها مع ذلك مكسوبة للعبد خلافا للمعتزلة والفلاسفة في زعمهم أنها مخلوقة للعبد ، بمعنى أنه المستقل بإيجادها أورد متمسّكهم سؤالا. وجعل الأصل الثاني في كلام حجة الاسلام جوابا عنه فقال :
(فإن قيل : لا شك أنه تعالى خلق للعبد قدرة على الأفعال ولذا) أي : ولكون القدرة مخلوقة للعبد قائمة به (ندرك) نحن معشر العباد العقلاء (تفرقة ضرورية) بطريق الوجدان (بين الحركة المقدورة) لنا وهي الاختيارية (و) بين (الرعدة الضرورية) أي : التي تصدر دون اختيار منا. وهذا من باب الاستدلال بالسبب على المسبب ، ولو قيل بأن إدراكنا التفرقة المذكورة بطريق الوجدان يدل على قيام قدرة بالعبد مخلوقة لله تعالى لكان استدلالا بالمسبب على السبب ، وهو هنا أقعد ؛ لأن المقام مقام إثبات قدرة للعبد بدليلها ، وهو إدراكنا التفرقة المذكورة بالوجدان (والقدرة ليس خاصيتها) من بين الصفات (إلا التأثير) أي : إيجاد