البقرة : ١٥٢) وغيره من الآيات والأحاديث (لخاف من انفتح (١) لعقله عظمة كبريائه وجلاله من أن يسميه) تعالى بلسانه (إذ يرى أنه أحقر من ذلك) أي : من أن يجري على لسانه ذكر الكبير المتعال ؛ لأنه يشهد بعين بصيرته أن من آثار القدرة ملكوت السموات والأرض وما فيهما من أنواع العالم الذي هو فرد حقير من جملة أفراد بعضها ، وأنه لا يعرف حقيقة نفسه تفصيلا ولا ما أودع فيه من القوى ، فكيف يدرك ذلك من غيره مما لم يشاهده من بديع المخلوقات مع علمه بتمام الاقتدار الإلهي على ما هو أعظم مما وجد من السماوات والأرض وما بينهما ، (فسبحان من تقرب إلى خلقه بفضله وعظيم بره) تقرّب لطف وأفضال ، وجلّ عن تقرب الحلول والانتقال.
(فإذا لم يوجب العقل ذلك) أي : ما تقدم ذكره عن أبي منصور وعامة مشايخ سمرقند من الإيمان وما ذكر معه (لم يبق) دليل على الحكم للأفعال من ذلك وغيره (إلا السمع) أي : المسموع المنقول عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، (وقد) قام دليل السمع على عدم تعلق الحكم بالعباد قبل البعثة (قال الله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (سورة الإسراء : ١٥)) وجه الاستدلال أنه (نفى العذاب مطلقا) في الدنيا والآخرة ، وذلك نفي للازم الوجوب والحرمة ، وانتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم ، ولمّا تشبّث بعض المخالفين بحمل العذاب في الآية على عذاب الدنيا نبّه على دفعه بأنه تخصيص بغير دليل (٢) بقوله : (فتخصيصه) أي : العذاب في الآية (بعذاب الدنيا خلاف اللفظ) أي : خلاف مقتضى إطلاق لفظ العذاب (بلا موجب) يقتضي التخصيص ، بل قد ورد السمع دالا على إرادة عذاب الآخرة من الإطلاق (و) ذلك أنه (قال سبحانه في شأن الكفرة (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) (سورة الملك : ٨) وفي) آية (أخرى : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) (سورة الأنعام : ١٣٠)) فإن الآيتين ونحوهما ترشد إلى أن الأمر الذي قامت به الحجة عليهم واستحقوا عذاب الآخرة بعصيانهم بعده هو إرسال الرسل لا إدراك عقولهم.
__________________
(١) في (ط) : القبح.
(٢) التخصيص : عرفه الشوكاني بقوله : هو إخراج بعض ما كان داخلا تحت العموم على تقدير عدم المخصص ، وشرح الجملة الأخيرة : بأن التخصيص إنما يكون تخصيصا بدليل عام لا قصر العام بدليله ، انظر : إرشاد الفحول ، ص ١٤٢ ، فحمل الآية على عذاب الدنيا لا يصلح دليلا مخصّصا.