وقوله : (بعد) ظرف ل «قال» ، أي : قال أئمة بخارى ما ذكر بعد (قولهم بأن للفعل صفة الحسن والقبح) ولكن الحكم غير تابع لهما كقول الأشاعرة (إذ لا يمتنع عقلا أن لا يأمر الباري) تعالى (بالإيمان ولا يثيب عليه ، وإن كان حسنا ، و) لا يمتنع عقلا أن (لا ينهى سبحانه عن الكفر ولا يعاقب عليه ، وإن كان قبيحا) بل أقبح القبائح.
(والحاصل) مما عليه أئمة بخارى والأشاعرة (أنّه لا يمتنع عدم التكليف عقلا ، إذ لا يحتاج سبحانه إلى الطاعة ويستكثر بها ويرتاح للشكر) فكيف يحتاج إلى شيء أو يستكثر بشيء وهو الغني مطلقا ، وكل موجود فقير إليه ، وكيف يرتاح إلى شيء والارتياح ميل تهتز لأجله النفس فهو انفعال ، والانفعال في حقه تعالى محال (١) (ولا يتضرر) سبحانه (بالمعصية ولا يأخذه حنق) بسببها (فيتشفّى بالعقاب) لمثل ما مر ، إذ الحنق والتشفي نوعان من الانفعال وهو محال عليه تعالى (على أن تسميتها) أي : الأفعال قبل البعثة (طاعة ومعصية تجوّز ، إذ هما) أي : الطاعة والمعصية (فرع الأمر والنهي) إذ الطاعة : الإتيان بالمأمور به امتثالا والكف عن المنهي عنه كذلك ، والعصيان : مخالفة الأمر والنهي ، فإطلاق الطاعة والمعصية قبل ورود أمر ونهي مجاز من إطلاق الشيء على ما يؤول إليه ، فكيف تتحقق طاعة أو معصية قبل ورود أمر ونهي؟
وقد انتقل إلى ضرب آخر من الاستدلال بقوله : (بل يجوّز العقل العقاب بذكر اسمه) أي : بسبب ذكر العبد اسمه تعالى (شكرا له) سبحانه ؛ لأن الشاكر ملك المشكور تعالى ، فإقدامه على الشكر بغير إذنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه ، فيقتضي العقاب ؛ ولأن العبد إذا حاول مجازاة موجده المنعم عليه بجلائل النعم دون إذن منه استحق التأديب لمحاولته ما ليس أهلا له ، (فلو لا أنه) سبحانه (أطلق بفضله) للعبد (ذكر اسمه سمعا) أي : من جهة السمع لورود الأدلة السمعية في الكتب الإلهية وعلى ألسنة المرسلين بطلب الذكر من العبد (ووعد) عطف على «أطلق» (عليه) أي : على الذكر الثواب ، في قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (سورة
__________________
(١) الانفعال : مطلق الانفعال : تأثّر الشيء بالغير ، كقولنا كسرنا العصا فانكسرت ، فيكون الطرف الثاني قابلا للانفعال ووقوع التأثّر منه ، بما يعرف بالاستجابة.
فهو في حقه تعالى محال ، لاستلزامه التأثّر بالغير والاستجابة له وهو معنى الاحتياج ، وذلك ينافي الألوهية التي تتصف بالكمال وعدم الاحتياج للغير.