لأنهم قليلون جدا ، وأضداده كثيرون لا يحصيهم عدد والجواب من وجوه :
(أحدها) إنا قد بينا أن جمهور هاتين الأمتين المذكورتين آمن به وصدقه وقد كانوا ملء الأرض ، وهذه الشام ومصر وما جاورهما واتصل بهما من أعمالهما ، والجزيرة والموصل وأعمالهما ، وأكثر بلال المغرب وكثير من بلاد المشرق ، كانوا كلهم نصارى فأصبحت هذه البلاد كلها مسلمين ، فالمختلف من هاتين الأمتين عن الإيمان به أقل القليل بالإضافة إلى من آمن به وصدقه ، وهؤلاء عباد الأوثان كلهم أطبقوا على الإسلام إلا من كان منهم في أطراف الأرض بحيث لم تصل إليه الدعوة ، وهذه أمة المجوس توازي هاتين الأمتين كثرة وشوكة وعددا دخلوا في دينه وبقي من بقي منهم كما بقيتم أنتم تحت الذلة والجزية (الثاني) إنا قد بينا أن الغرض الحامل لهم على الكفر ليس هو مجرد المأكلة والرئاسة فقط وإن كان من جملة الأغراض ، بل منهم من حملة ذلك ، ومنهم من حمله الحسد ، ومنهم من حمله الكبر ، ومنهم من حمله الهوى ، ومنهم من حمله محبة الآباء والأسلاف وحسن الظن بهم ومنهم من حمله الفه للدين الذي نشأ عليه ، وجبل بطبعه فصار انتقاله عنه كمفارقة الإنسان ما طبع عليه ، وأنت ترى هذا السبب كيف هو الغالب المستولى على أكثر بني آدم في إيثارهم ، ما اعتادوه من المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والديانات على ما هو خير منه وأوفق بكثير ، ومنهم من حمله التقليد والجهل وهم الأتباع الذين ليس لهم علم ، ومنهم من حمله الخوف من فوات محبوب أو حصول مرهوب ، فلم تنسب هاتين الأمتين إلى الغرض المذكور وحده (الثالث) إنا قد بينا أن الأمم الذين كانوا قبلهم كانوا أكثر عددا وأغزر عقولا منهم وكلهم اختاروا العمى على الهدى والكفر على الإيمان بعد البصيرة ، فلهاتين الأمتين سلف كثير وهم أكثر الخلق.
(الرابع) إن عبد الله بن سلام وذويه إنما أسلموه في وقت شدة من الأمر وقلة من المسلمين وضعف وحاجة وأهل الأرض مطبقون على عداوتهم ، واليهود والمشركون هم أهل الشوكة والعدة والحلقة والسلاح ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه إذ ذاك قد أووا إلى المدينة ، واعداؤهم يتطلبونهم في كل وجه ، وقد بذلوا الرغائب لمن جاءهم بهم ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم وصاحبه وخادمهما فاستخفوا