فكيف يحجر على طبيب القلوب والأديان أن تتبدل أحكامه بحسب اختلاف المصالح؟! وهل ذلك إلا قدح في حكمته ورحمته وقدرته وملكه التام وتدبيره لخلقه؟! ومن جهلهم بمعبودهم ورسوله وأمره أنهم أمروا أن يدخلوا باب المدينة التي فتحها الله عليهم سجدا ويقولوا حطة ، فيدخلوا متواضعين لله سائلين منه أن يحط عنهم خطاياهم ، فدخلوا يزحفون على أستاههم بدل السجود لله ، ويقولون : «هنطا سقمانا» أي حنطة سمراء ، فذلك سجودهم وخشوعهم ، وهذا استغفارهم واستقالتهم من ذنوبهم.
ومن «جهلهم وغباوتهم» أن الله سبحانه أراهم من آيات قدرته وعظيم سلطانه وصدق رسوله ما لا مزيد عليه ، ثم أنزل عليهم بعد ذلك كتابه وعهد إليهم فيه عهده وأمرهم أن يأخذوه بقوة فيعبدوه بما فيه كما خلصهم من عبودية فرعون والقبط فأبوا أن يقبلوا ذلك وامتنعوا منه ، فنتق الجبل العظيم فوق رءوسهم على قدرهم ، وقيل لهم إن لم تقبلوا أطبقته عليكم فقبلوه من تحت الجبل. قال ابن عباس : رفع الله الجبل فوق رءوسهم وبعث نارا من قبل وجوههم ، وأتاهم البحر من تحتهم ، ونودوا إن لم تقبلوا أرضختكم بهذا ، وأحرقتكم بهذا ، وأغرقتكم بهذا ، فقبلوه ، وقالوا سمعنا وأطعنا ولو لا الجبل ما أطعناك ولما آمنوا بعد ذلك قالوا : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) [البقرة : ٩١] ، ومن جهلهم أنهم شاهدوا الآيات ورأوا العجائب التي يؤمن على بعضها البشر ثم قالوا بعد ذلك : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] ، وكان الله سبحانه قد أمر موسى أن يختار من خيارهم سبعين رجلا لميقاته فاختارهم موسى وذهب بهم إلى الجبل ، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل ، وقال للقوم ادنوا ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الحجاب وقعوا سجدا ، فسمعوا الرب تعالى وهو يكلم موسى ويأمره وينهاه ويعهد إليه ، فلما انكشف الغمام قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] ، ومن جهلهم أن هارون لما مات ودفنه موسى قالت بنو إسرائيل لموسى أنت قتلته حسدته على خلقه ولينه ومحبة بني إسرائيل له ، قال فاختاروا سبعين رجلا فوقفوا على قبر هارون ، فقال موسى يا هارون أقتلت أم مت. قال : بل مت وما قتلني أحد ،