الوجه الثاني ـ أنّ أمر الايجاب طلب يذمّ تركه اتّفاقا ، ولا ذمّ إلّا على فعل ؛ لأنّه المقدور ، وما هو هاهنا إلّا الكفّ عنه ، أو فعل ضدّه ، وكلاهما ضدّ للفعل. والذمّ بأيّهما كان ، يستلزم النهي عنه ، إذ لا ذمّ بما لم ينه عنه ، لأنّه معناه.
والجواب : المنع من أنّه لا ذمّ إلّا على فعل ، بل يذمّ على أنّه لم يفعل. سلّمنا ، لكنّا نمنع تعلّق الذمّ بفعل الضدّ ، بل نقول : هو متعلّق بالكفّ ، ولا نزاع لنا في النهي عنه.
واعلم : أنّ بعض أهل العصر حاول جعل القول بالاستلزام منحصرا في المعنوي ؛ فقال : التحقيق أنّ من قال بأنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه لا يقول بأنّه لازم عقليّ له ، بمعنى أنّه لابدّ عند الأمر من تعقّله وتصوّره. بل المراد باللزوم : العقليّ مقابل الشرعيّ ، يعني : أنّ العقل يحكم بذلك اللزوم ، لا الشرع. قال : «والحاصل : أنّه إذا أمر الآمر بفعل ، فبصدور ذلك الأمر منه يلزم أن يحرم ضدّه ، والقاضي بذلك هو العقل. فالنهي عن الضدّ لازم له بهذا المعنى. وهذا النهي ليس خطابا أصليّا حتّى يلزم تعقّله ، بل إنّما هو خطاب تبعيّ ، كالأمر بمقدّمة الواجب اللازم من الأمر بالواجب ؛ إذ لا يلزم أن يتصوّره الآمر».
هذا كلامه. وأنت إذا تأمّلت كلام القوم رأيت أنّ هذا التوجيه إنّما يتمشّى في قليل من العبارات الّتي أطلق فيها الاستلزام. وأمّا الأكثرون فكلامهم صريح في إرادة اللزوم باعتبار الدلالة اللفظيّة. فحكمه على الكلّ بإرادة المعنى الّذي ذكره تعسّف بحت ، بل فرية بيّنة.
واحتجّ المفصّلون على انتفاء الاقتضاء لفظا ، بمثل ما ذكرناه في برهان ما اخترناه ، وعلى ثبوته معنى بوجهين :
أحدهما : أنّ فعل الواجب الّذي هو المأمور به لا يتمّ إلّا بترك ضدّه ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ، وحينئذ فيجب ترك فعل