بالشيء النهي عن ضدّه في المقامين ، فالقول بأنّ النزاع فيه بعينه النزاع في الأمر حسب ما ذكره كما ترى.
وكأنّه لذا عبّر في النهاية عن الخلاف في ذلك بأنّ من الناس من طرد البحث في النهي ، فقال : النهي عن الشيء أمر بضدّه ، وهو اختيار القاضي أبي بكر. وهذا كما ترى يفيد التفاوت في الخلاف بحسب المقامين.
ثمّ إنّ ما حكاه عن القاضي يفيد ذهابه إلى مقالة الكعبي ، حسب ما عرفت بعد تنزيل الضدّ في كلامه على الضدّ الخاصّ أو الأعمّ منه ومن العامّ. وقد ذكر في جملة احتجاج القاضي على ذلك : بأنّ النهي طلب ترك الفعل ، والترك فعل الضدّ ، فيكون أمرا بالضدّ. وهذا كما ترى أحد تقريرات شبهة الكعبي في القول بنفي المباح بعد حمل الضدّ في كلامه على الخاصّ. هذا.
وذكر العلّامة رحمهالله في النهاية بعد ذلك : أنّ التحقيق : أنّ النهي طلب الإخلال بالشيء ، وهو يستلزم الأمر بما لا يصحّ الإخلال بالمنهيّ عنه إلّا معه ، فإن كان المنهيّ عنه لا يمكن الانصراف عن المنهيّ عنه إلّا إليه كان النهي دليلا على وجوبه بعينه ، وإن كان له أضداد كثيرة لا يمكن الانصراف عنه إلّا إلى واحد منها كان النهي في حكم الأمر بها أجمع على البدل.
وأنت خبير بما فيه ، فإنّ مجرّد عدم إمكان الانصراف عنه إلّا إلى واحد منها لا يقضي بوجوبها ، إذ قد يكون ذلك من لوازم وجود المكلّف حسب ما مرّ ، فيمتنع انفكاك ترك الحرام عن التلبّس بواحد منها ، وذلك غير مسألة التوقّف ، كيف ولوازم الواجب ممّا لا يمكن فعل الواجب بدونها ، ولا توقّف لها عليها ، ولا يقضي وجوب الواجب بوجوبها كما مرّ ، فالقول بالدلالة في الصورة المفروضة أيضا فاسدة ، إلّا أن يحصل هناك توقّف للترك على بعض الأضداد ، أو واحد منها ؛ فيجب الإتيان به لأجل ذلك على حسب ما مرّ ، وذلك أمر آخر.
نعم ، لو اتّحد الضدّ ـ كالحركة والسكون ـ لم يبعد أن يكون مفاد النهي عن أحدهما هو الأمر بالآخر ، إذ لا فرق عرفا بين أن يقول : «اسكن» أو «لا تتحرّك»