ثمّ إنّ لهم في المسألة أقوالا عديدة :
أحدها : القول بالفور ، ذهب إليه جماعة من المتقدّمين ، منهم الشيخ منّا والحنفيّة والحنابلة والقاضي وجماعة من الأصوليين من العامّة واختاره أيضا جماعة من المتأخّرين. والمراد بالفور إمّا ثاني زمان الصيغة أو أوّل أوقات الإمكان أو الفوريّة العرفيّة فلا ينافيه تخلّل نفس أو شرب ماء ونحو ذلك أو الفوريّة العرفيّة المختلفة بحسب اختلاف الأفعال ، كطلب الماء وشراء اللحم والذهاب إلى القرية القريبة أو البلاد البعيدة على اختلافها في البعد وتهيّؤ الأسباب.
أو المراد به ما لا يصل إلى حدّ التهاون وعدم الاكتراث بالأمر ، والظاهر أنّ أحدا لا يقول بجواز التأخير إلى الحدّ المذكور إن أفاد التأخير ذلك ، وذلك ممّا لا ربط له بدلالة الصيغة ، بل للمنع من التهاون بأوامر الشرع وعدم الاكتراث بالدين ، وهو أمر خارج عن مقتضى الأمر حتّى أنّه لو اخّر إليه لم يسقط منه التكليف على القول المذكور وإن قلنا بسقوط التكليف بفوات الفور فليس ما ذكر تحديدا للفور إنّما هو بيان لحدّ التأخير في التراخي من الخارج لا بمقتضى الصيغة ، إذ لا إشعار في نفس الصيغة بذلك أصلا ، فجعله بيانا لحدّ الفور كما يظهر من بعض المتأخّرين ليس على ما ينبغي.
وكيف كان فالقول بالفور ينحلّ إلى أقوال عديدة :
فإنّ منهم من فسّره بأوّل أزمنة الإمكان. وفسّره بعضهم بالفوريّة العرفيّة المختلفة بحسب اختلاف الأفعال. وفسّره بعضهم بما لا يصل إلى حدّ التهاون.
وأطلق بعضهم فيحتمل كلّا من الوجوه الأربعة (١) وربما يحمل على الفوريّة العرفيّة بأحد التفسيرين المذكورين.
ثمّ إنّ ظاهر القائل بالفوريّة تعيّنه ، وعن القاضي التخيير بينه وبين العزم على الفعل في ثاني الحال.
__________________
(١) كذا ، والظاهر : الوجوه الثلاثة.