ـ ثانيها ـ
أنّ الدليل ينقسم إلى ما يكون حجّة في نفسه مطلقا ـ كظاهر الكتاب وخبر الواحد ـ وما يكون حجّة عند عدم قيام حجّة على خلافه فتكون حجّة في نفسه لا مطلقا. فإذا كان تعارض في القسم الأوّل لزم الرجوع إلى حكم الترجيح والتعادل بخلاف ما إذا وقعت المعارضة بينه وبين القسم الثاني من الأدلّة ، فإنّ الدليل على الوجه الثاني غير قابل لمزاحمة شيء من الأدلّة على الوجه الأوّل ، إذ المفروض كونه دليلا حيث لا دليل ، فلو قام هناك دليل من القسم الأوّل ولو من أضعف الأدلّة قدّم عليه ، لعدم اندراجه في الدليل مع وجوده.
فإن قلت : إنّ حجّية القسم الأوّل أيضا ليست مطلقة ، فإنّه إنّما يكون حجّة مع عدم حصول معارض أقوى منه ، وأمّا مع حصوله فلا ريب في سقوطه عن الحجّية.
قلت : المراد بإطلاقه في الحجّية كون حجّيته في نفسه مطلقة غير مقيّدة بشيء كما في القسم الثاني لا وجوب العمل به مطلقا ، إذ من البيّن كون المعمول به أقوى الحجّتين ، ولا ملازمة بين الحجّية على الوجه المذكور ووجوب العمل به بالفعل ، فهناك فرق بين ترك حجّة لوجود حجّة أقوى منها وعدم حجّية شيء من أصله.
وبعبارة اخرى : ثمّ إنّ الأدلّة الشرعيّة تنقسم أيضا إلى أقسام :
أحدها : ما يفيد القطع بالواقع كالإجماع المحصّل ودليل العقل.
ثانيها : ما يفيد الظنّ بالواقع ويكون حجّيته من حيث حصول الظنّ منه ، فالدليل هنا على الحقيقة هو الظنّ الحاصل من تلك الأدلّة ، فلو لا حصول الظنّ منها لم تكن حجّة، وحصول هذا القسم في الأدلّة غير ظاهر عندنا كما سنفضّل القول فيه إن شاء الله.
ثالثها : ما تكون الحجّة خصوص امور ناظرة إلى الواقع كاشفة عنها بحسب دلالتها سواء كانت مفيدة للظنّ بالواقع أو لا ، ومن ذلك كثير من الأدلّة الشرعيّة كظواهر الكتاب والسنّة ، فإنّ حجّيتها غير منوطة بإفادة الظنّ بالحكم الواقعيّ كما مرّت الإشارة إليه غير مرّة في المباحث المتقدّمة.