ثانيها : أنّ العقل هل يدرك حسن الأفعال وقبحها من غير إعلام الشارع بهما وبيانه لشيء منهما ، فالأشاعرة المنكرون لأصل الحسن والقبح العقليّين يلزمهم نفي ذلك رأسا ، وأمّا الآخرون فالمعروف بينهم جواز ذلك ، بل وحصوله في بعض المطالب.
وقد أنكر ذلك جماعة منهم المحدّث الاسترابادي حيث ذهب إلى أنّه لا اعتماد على شيء من الإدراكات العقليّة في غير الضروريّات فلا يثبت شيء من الحسن والقبح الواقعيين بإدراك العقل ، وبنى الأمر في ذلك على أنّ الامور المبنيّة على المقدّمات البعيدة عن الإحساس ـ ممّا يكثر فيها وقوع الغلط والالتباس ـ فلا يمكن الركون إلى شيء منها. ومحصّله نفي الإدراك المعتبر ، وأنّ ما يتراءى من إدراكه فليس بإدراك على وجه الحقيقة ليصحّ الاعتماد عليه. وقد تبعه في ذلك الفاضل الجزائري ، وقرّره في غير واحد من كتبه إلّا أنّه نصّ على أنّ ما كان من البديهيات يمكن الاستناد فيه إلى العقل ، وأنّه الحجّة فيه ، وما كان من النظريّات لا يصحّ الاستناد فيه إلى العقل أصلا. وكأنّه أراد بالبديهي ما كان بديهيّا عند أرباب العقول دون ما كان بديهيّا عند المدرك من غير طريق الإحساس وإن كانت المسألة من نظريّات الدين ، كما يظهر ذلك من التأمّل في كلامه وأدلّته ، فيرجع إلى ما ذكره المحدّث المذكور.
وقد نصّ أيضا ـ كالمحدّث المتقدّم ـ بانحصار المدرك في غير ضروريّات الدين بالأخبار المأثورة عن الصادق عليهالسلام ، وقد تبعهما في المقالة المذكورة صاحب الحدائق إلّا أنّ في كلامه بعض خصوصيّات نشير إليه بعد ذلك. وكيف كان ، فمحصّل كلام هؤلاء ومن تبعهم في ذلك عدم الاعتماد في أمر الدين اصوله وفروعه على الادراكات العقليّة مطلقا ، بل لا اعتماد لهم على شيء من إدراكات العقول في شيء من الأحكام الّتي مبادئها غير محسوسة ولا قريبة من المحسوسة كمسائل الهندسة إلّا ما كان من قبيل البديهيّات الواضحة المتلقّاة بالقبول عند أرباب العقول.