وذهب بعض أفاضل المتأخّرين من علمائنا الاصوليّين إلى التفصيل بين العلم الحاصل للعقل بطريق الضرورة والحاصل بطريق الاكتساب والنظر ، فحكم بصحّة الاعتماد على الأوّل دون الأخير وكان الفرق بينه وبين كلام الجماعة أنّه يقول بالاعتماد على العلم البالغ إلى حدّ الضرورة مطلقا ، سواء كان ممّا تسالم فيها العقول أو كان ضروريّا عند المستدلّ ، وإن نازع غيره في كونه ضروريّا أو في أصل ثبوته ، لتفاوت العقول في قبول العلوم والإدراكات ، وهم لا يقولون بالاعتماد على الضروريّات إلّا في ما اتّفق العقول عليها حسب ما أشرنا إليه.
وسيبيّن ذلك من ملاحظة أدلّتهم الآتية بعون الله تعالى ، وقد ينقل هنا قول آخر أسنده بعضهم إلى بعض المتأخّرين ، وهو التفصيل بين المعارف الدينيّة والأعمال البدنيّة ، فقال بحجّيته في اصول الدين دون الفروع ، فهذه جملة الأقوال في المقام ، والكلام هنا إنّما هو في الإيجاب الجزئي والسلب الكلّي ، إذ لا يعقل ادّعاء الموجبة الكلّية في المقام.
ولا يذهب عليك أنّه بناء على مذهب الأشعري ليس للعقل إدراك شيء من الحسن والقبح الشرعيّين ، لكون الحكم عنده توقيفيّا متوقّفا على توقيفه وبيانه كالأوضاع اللفظيّة ، فليس للعقل فيها مدخليّة.
نعم قد يحصل العلم بها من طريق العادة ويمكن إرجاعه إلى النقل إذ سبيل معرفة العادة النقل (١). وقد يقال بحصول العلم بها على سبيل الإلهام ونحوه ، وهو على فرض تحقّقه لبعض الأشخاص نحو من التوقيف.
ثالثها : أنّه إذا قيل بإدراك العقل الحسن والقبح على نحو ما ثبت في الواقع فهل يثبت بذلك حكم الشرع به كذلك فيكون ما تعلّق به واجبا أو محرّما في الشريعة ـ مثلا ـ على نحو ما أدركه العقل ، أو لا يثبت الحكم الشرعي إلّا بتوقيف الشارع وبيانه فلا وجوب ولا حرمة ولا غيرهما من الأحكام الشرعيّة ، إلّا بعد وروده في الشريعة ، ولا يترتّب ثواب ولا عقاب على فعل شيء ولا تركه إلّا بعد بيانه؟
__________________
(١) في «ط ١» : إذ به دلّ العقل النقل.