إذا صدر من غير المميّز لم يجد اختلافا بينهما أصلا ، مع أنّ مخالفات الطبع ممّا يدركه غير المميّز في الغالب ، فليست الموافقة والمخالفة في المقام إلّا للعقل ، وهو ملزوم الحسن والقبح العقليّين ، لملائمة العقل للامور المحسّنة وتنفّره من الامور المستقبحة كما هو الشأن بالنسبة إلى سائر الحواسّ بالنسبة إلى ما يلائمها وينفر عنها ، وصفة الكمال والنقص إن ثبت حصولها في الأفعال فليس إلّا من جهة الحسن أو القبح ، إذ ليس الفعل المتّصف بالكمال إلّا ما يمدح فاعله والمتّصف بالنقص ليس إلّا ما يذمّ فاعله.
وقد اعترف به صاحب المواقف حيث أورد على أصحابه المستدلّين على امتناع الكذب عليه تعالى بكونه صفة نقص والنقص عليه محال بالإجماع قائلا : إنّه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي ، فإنّ النقص في الأفعال هو القبح العقلي بعينه فيها ، وإنّما يختلف العبارة. وهو كما ترى بمنزلة اعترافه بالحقّ ، لإقرار أصحابه كما هو مقتضى الضرورة من كون الكذب نقصا ، واعترافه بكون ذلك عين القبح المتنازع.
وقد يورد في المقام تارة : بمنع قيام الضرورة من العقل بحسن شيء أو قبحه ، وما ادّعي من إدراك الحسن والقبح في الامور المذكورة فإنّما هو من جهة الإلف بالشريعة وملاحظة أحكام الشرع والعادة ، لا من مجرّد العقل.
وتارة بالمنع : من كون المدرك هو الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه ، بل قد يكون بأحد المعاني الاخر الخارجة عن محلّ النزاع كموافقة الغرض ومخالفته وصفة الكمال والنقص ونحوهما.
واخرى : بأنّ ذلك لو سلّم فإنّما يفيد ثبوت الحسن والقبح بالنسبة إلى أفعالنا دون أفعاله تعالى ، واستنباط الأحكام الشرعيّة من العقل مبنيّ عليه. وقياس الغائب على الشاهد ممّا لا وجه له سيّما بالنسبة إلى الله تعالى ، مع أنّا نقطع بأنّه تعالى لا يقبح منه تمكين العبد من المعصية ، مع أنّه قبيح منّا.
واندفاع الجميع ظاهر.