وممّا ينادي بضرورة إدراك العقل استحقاق المدح على بعض الأفعال والذمّ على بعضها إطباق العقلاء على المدح على جملة من الأفعال والذمّ على جملة اخرى ، ولذا يحكمون بحسن عقوبة السيّد عبده إذا عصاه ، ويذمّونه على عصيانه مولاه ، ويمدحونه إذا رأوه ممتثلا لأوامره ومنتهيا عمّا نهاه ، ويذمّون المولى لو أذاه بغير ما يستحقّه. ولا زالت العلماء والخطباء في سائر الأعصار والأزمان في جميع الأمصار والبلدان ينهون الناس بمقتضى ضرورة العقل على حسن بعض الأفعال وقبح بعضها وعدم إقدام الفاعل على ترك بعضها وفعل بعضها كحسن طاعة المنعم الحقيقي وقبح معصيته ، سيّما إذا علم بما يترتّب على الأمرين من المثوبات الجزيلة والعقوبات الشنيعة ، فإنّ ضرورة العقل قاضية بحسن الإتيان بالأوّل وقبح الإقدام على الثاني مع قطع النظر عن ملاحظة ما ورد فيه من الشرع.
وممّا ينبّه على ذلك أيضا بأنّه لو خيّر العاقل بين الصدق والكذب مع تساويهما في النفع والضرر وسائر الجهات الخارجيّة لاختار الصدق على الكذب ، وليس ذلك إلّا لحسنه، إذ لا سبب غيره.
وما يتوهّم من عدم استواء الصدق والكذب من جميع الجهات ، ومجرّد فرضه غير نافع مع انتفائه في الواقع ، إذ لا أقلّ من الاختلاف بينهما في المطابقة واللامطابقة ، ومن أنّه لا يستلزم أن يكون إيثار الصدق من جهة حسنه بالمعنى المعروف أو قبح الكذب كذلك ، بل ليس ذلك إلّا من جهة كون الكذب نقصا ، أو لكونه منافرا للطبع بخلاف الصدق ، فلا يفيد ذلك ثبوت الحسن أو القبح بالمعنى المتنازع فيه مدفوع.
أمّا الأوّل ، فلأنّ المفروض استواؤهما في المصالح والمفاسد وسائر الجهات الموافقة للغرض والمخالفة [له] لا في مطلق الصفات ، إذ لا فائدة في اعتباره في المقام ، ومن البيّن إمكان استوائهما في ما فرض في كثير من الأحيان.
وأمّا الثاني ، فلأنّه من البيّن أنّ شيئا من الصدق والكذب من حيث هو لا موافقة فيه للطبع ولا منافرة ، سيّما مع تحقّق ما فرض من المساواة في الآثار ، ولذا