بقي طريحا على الرمضاء تصهره شمس السماء وانقطع عنه الرجاء بالبقاء وأيقن بالموت والفناء قد غلبه الإغماء ، لما ألفى من التعب والنصب والعناء ، فلمّا وافاه أقبل عليه بكلّه ووضع رأسه في حجره ومسح التراب من وجهه ، وكان أشفق عليه من أبيه وامّه ، وجعل يضع الماء شيئا فشيئا في حلقه وقد أظلله عن الشمس بنفسه إلى أن أفاق من غشوته وتقوّى ممّا كان فيه من شدّة ضعفه فأخذه من ذلك المكان وأتى به إلى منزله ، فمهّد له الموائد ، وسقاه من الزلال البارد ، وأنعم عليه غاية الإنعام ، وأكرمه فوق ما يتوقّع من الإكرام ، وأخدمه أهله وعياله ومن له من الخدّام ، إلى أن زال ما كان فيه من التعب ، وارتفع عنه ما لقي من النصب ، أعطاه زادا وراحلة ودفع إليه سلاحا ليتمكّن من دفع عدوّه ، وتبعه إلى أن أوصله إلى طريقه ، ودلّه إلى ما كان يرومه من مقصده ، ولم يفعل به كلّ ما ذكر من الجميل إلّا لمجرّد دفع الضرر عن المضطرّين من غير أن يقصد به مجازاة أو شيئا آخر.
ثمّ إنّ ذلك الرجل لمّا رأى حينئذ قوّة نفسه وانفراد صاحبه وتمكّنه من قهره كرّ عليه بسلاحه ، وأخذ جميع ما عنده ، ثمّ قابله بأنواع البلاء من الشتم والضرب والجرح والإيذاء إلى أن صرعه على الأرض في أشدّ الحال وأسوأ الأحوال ، ثمّ عاد إلى أهله وعياله فهتك عرضه ، وأخذ من أمواله ما قدر على أخذه ، وأحرق ما لم يقدر عليه ، إلى غير ذلك من أنواع الإضرار والإيذاء والإهانة. كلّ ذلك من غير ضرورة داعية إليه ، أو شدّة حاجة أو اضطرار باعث عليه ، أو عداوة سابقة تدعو إليه ، بل لمحض مقابلة الإحسان بالإساءة ومجازات النعمة بالنقمة ، فأيّ عاقل يحكم بتساوي الفعلين في استحقاق المدح والذمّ وترتّب الثناء واللوم؟! أفيجوز في عقل من العقول الحكم بمساواة الصنيعين وتساوي ذينك الشخصين في ما أتيا به من الفعلين إلى أن يرد الشرع بمدح أحدهما وذمّ الآخر مع تساوي نسبة مدحه وذمّه إلى الأوّل والآخر ، ليكون حسن أحد الفعلين وقبح الآخر بمجرّد مدحه وذمّه من غير ملاحظة شيء آخر غيره ، وهو كما ترى أوضح في البطلان من أن يخفى على ذهن من الأذهان حتّى النسوان والصبيان.