في الحاكم بالمدح والحاكم بالذمّ ، فالعدليّة على أنّ المدح إنّما يترتّب عليه بحكم العقل لصفة قائمة به وكذا الذمّ ، والأشاعرة على أنّه إنّما يترتّب عليه بمجرّد حكم الشارع من غير أن يكون لحكم العقل مدخليّة فيه قبل حكم الشرع أو بعده ، فالمفهوم المذكور هو القدر الجامع بين المعنيين وإن كان القيد المذكور باعثا على اختلاف الأمرين حسب ما ذكر هنا ، والمأخوذ في محلّ النزاع هو القدر المذكور ، وهو كاف في المقام ، ويمكن أن يجعل النزاع في إثبات الحسن والقبح العقليّين ونفيهما ، فيكون تفسير الأشاعرة لهما بما مرّ مبنيّا على مذهبهم بعد بنائهم على نفي العقليّين ، فتأمّل.
المقام الثاني : في بيان حجج العدليّة على ثبوت الحسن والقبح العقليّين وإدراك العقل في الجملة لكلّ من الأمرين ، ولهم في ذلك متمسّكات من العقل والنقل.
أمّا الأوّل فمن وجوه :
أحدها : أنّ حسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان ممّا يشهد بهما في الجملة ضرورة الوجدان ، ولذا يحكم به الفرق المنشعبة من صنوف الإنسان حتّى منكري الشرائع والأديان ، بل ربّما لم يخف الحال في بعض مصاديقه على الصامت من الحيوان ، فإنّ الحكم بحسن الإحسان على بعض المضطرّين ممّن له كمال الحاجة والإنعام عليه بما يحفظ حياته عند الوقوع في الهلكة كقبح فعل من جازاه بعد ذلك بكمال الإساءة وقابل صنعه الجميل على قدر تمكّنه من الإيذاء والإهانة من الضروريّات الأوّليّة والفطريات الجليّة ، بحيث لا يخفى الفرق بين الأمرين في استحقاق المدح والذمّ على أحد من البريّة ، ولا يتوقّف فيه من كان على الغريزة الإنسانيّة.
ألا ترى ان من صادف رجلا منقطعا عن الرفقة وقد بقي منفردا في مهمة قفر في شدة من الحرّ بلا زاد ولا راحلة ولم يعرف طريقا إلى نجاته ولا حيلة وقد غلب عليه حينئذ الحرّ والعطش بحيث لم يبق له قوّة على النهوض والحركة وقد