الخامس : أنّه لو كان الحسن والقبح شرعيّين لاستوى نسبة الأفعال بالنظر إلى الأمر والنهي ، فكان ترجيح الشارع بعضها بالأمر وبعضها بالنهي ـ البالغين حدّ المنع من خلافه وعدمه ـ ترجيحا من غير مرجّح ، وفساد التالي مع ظهوره سيبيّن في محلّه.
ويمكن الإيراد عليه : بأنّه لا ينحصر المرجّح في المقام في خصوص حسنها وقبحها بالمعنى المتنازع فيه ، فقد يكون امورا اخر كموافقة المصلحة ومخالفتها وموافقة الطبع ومخالفته ، حيث إنّ التكليف يناسب أن يكون بإيجاد المخالف وترك الملائم ، مضافا إلى أنّ الأشعري يجوّز الترجيح بلا مرجّح ، فلا يتمّ الاستدلال على مذهبه ، إلّا أنّ ذلك لا يدفع الاحتجاج لإثباتهم المقدّمة المذكورة في محلّه.
وأمّا الحجج النقليّة الدالّة على ذلك من الكتاب والسنّة فكثيرة جدّا.
فمن الأوّل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ... وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)(١) فيدلّ على أنّ هناك فحشاء ومنكرا مع قطع النظر عن تعلّق النهي منه سبحانه بهما لا أنّهما صارا فحشاء ومنكرا بنهيه ، كما هو ظاهر من عرض الكلام المذكور على العرف ، كيف؟ ولو كان كما ذهبوا إليه لكان الفحشاء والمنكر هو عين ما نهى عنه ، فيكون مفاد الآية : أنّ الله ينهى عمّا نهى عنه وهو واضح الفساد ، بل نقول : إنّ سياق الآية في كمال الظهور في الدلالة على أنّه تعالى يأمر بالامور الحسنة من العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الامور القبيحة من الفحشاء والمنكر والبغي.
ومنه قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢) فيدلّ على أنّ هناك فحشاء لا يتعلّق أمر الشارع به ، ولو لا ذلك لكان الفحشاء عين المنهيّ عنه ، فيكون مفاد الآية حينئذ إنّه لا يأمر بما نهى عنه ، وهو مع فساده في نفسه مخالف لسياق الآية ، إذ مفاده أنّ ما ذكر قبل من قبيل الفحشاء
__________________
(١) النحل : ٩٠.
(٢) الاعراف : ٢٨.