ثمّ أقول : الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الامور في ثلاثة : «أمر بيّن رشده ، وأمر بيّن غيّه ، وشبهات بين ذلك» (١). وحديث «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (٢) ونظائرهما أخرج كلّ واقعة لم يكن حكمها بيّنا عن البراءة الأصليّة وأوجب التوقّف فيها ثمّ استشهد بكلام بعض العامّة قال :
ثمّ أقول : الاشتباه قد يكون في وجوب فعل وجودي وعدم وجوبه مثلا ، وقد يكون في حرمة فعل وجودي وعدم حرمته مثلا ، وقد جرت عادة العامّة وعادة المتأخّرين من علماء الخاصّة بالتمسّك بالبراءة الأصلية في المقامين ، ولمّا أبطلنا جواز التمسّك بها ـ لعلمنا بأنّه تعالى أكمل لنا ديننا ، ولعلمنا بأنّ كلّ واقعة تحتاج إليها الامّة إلى يوم القيامة أو تخاصم فيها اثنان ورد فيها خطاب قطعي من الله تعالى خال عن معارض ، ولعلمنا بأنّ كلّ ما جاء به نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم مخزون عند العترة الطاهرة ، ولعلمنا بأنّهم عليهمالسلام لم يرخّصوا في التمسّك بالبراءة الأصليّة في ما لم نعلم الحكم الّذي ورد فيه بعينه ، بل أوجبوا التوقّف في كلّ ما لم نعلم حكمه بعينه وأوجبوا الاحتياط في بعض صوره ـ فعلينا أن نبيّن ما يجب أن يعمل به في المقامين ، وسنحقّقه بما لا مزيد عليه في الفصل الثامن ، وقد ذكر هناك وجوب الاحتياط بالفعل فيما إذا ورد نصّ صحيح صريح في كون الفعل مطلوبا غير صريح في وجوبه وندبه إذا كان ظاهرا في الوجوب ، وكذا لو كان تساوى الاحتمالين ، ولو كان ظاهرا في الندبيّة بنى فيه على جواز الترك ، وكذا فيما إذا بلغنا حديث ضعيف دالّ على وجوب شيء.
واحتجّ عليه بقوله صلوات الله عليه : «ما حجب الله علمه عن العباد موضوع عنهم» (٣) وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : رفع القلم عن تسعة أشياء (٤) من جملتها ما لا يعلمون ، قال : فنحن معذورون ما دمنا متفحّصين ، وخرج عن تحتهما كلّ فعل وجودي لم
__________________
(١) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ص ١١٤ ح ٩.
(٢) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ص ١٢٢ ح ٣٨.
(٣) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ص ١١٩ ح ٢٨.
(٤) وسائل الشيعة : ج ١١ باب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ص ٢٩٥ ح ١ ، وفيه رفع عن امتي.