وهي ليست باختياريّة ، وإلّا لتسلسل ؛ فأجاب قدسسره عن هذا الإيراد بوجهين : الأوّل : أنّ الاختيار وإن لم يكن بالاختيار ، إلّا أنّ بعض مباديه غالبا يكون وجوده بالاختيار للتّمكن من عدمه بالتّأمّل فيما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللّوم والمذمّة. الثّاني : أنّ العقوبة إنّما تكون من تبعة بعده عن المولى بالتّجرّي كما في العصيان ، فكما أنّ التّجرّي يوجب البعد ، كذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة ، فإنّه وإن لم يكن باختياره ، إلّا أنّه بسوء سريرته وخبث باطنه بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتا ، والذّاتي ضروريّ الثّبوت للذّات ؛ ولذلك ـ أيضا ـ ينقطع السّؤال عن أنّه لم اختار الكافر والعاصي ، الكفر والعصيان ، واختيار المؤمن والمطيع ، الإطاعة والإيمان ، فإنّه يساوق السّؤال عن أنّ الحمار لم يكون ناهقا ، والإنسان لم يكون ناطقا.
هذا ، ولكن أمثال هذه المسائل الدّقيقة العميقة ، لا بدّ إيكالها إلى محالّها ، فلا ينبغي البحث عنها في الاصول ونحوه من العلوم الاعتباريّة.
التّنبيه الرّابع : قد يستدلّ لإثبات حرمة التّجرّي بالآيات والرّوايات الدّالتان على المؤاخذة والمعاقبة بمجرّد قصد المعصية.
أمّا الآيات ، فكقوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ)(١). وقوله جلّ جلاله : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)(٢). وقوله عزّ من قائله : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ
__________________
(١) سورة البقرة (٢) ، الآية ٢٨٤.
(٢) سورة البقرة (٢) ، الآية ٢٢٥.