النهي وإلّا لنزل الكلام من ذروة البلاغة إلى حضيض الكلام العادي.
بيان ذلك في قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) ، أنّ شدة علاقة الشارع بطهارة محيط الحجّ عن هذه الأُمور الثلاثة دفعه إلى الاخبار عن خلوه منها. وهذا كثير في المحاورات العرفية. ألا ترى أنّ الرجل يقول لزوجته أو صاحبه : «لا كذب ولا خيانة» وذاك أنّ رغبته بطهارة حياته العائلية أو الاجتماعية من الكذب والخيانة ، ألجأه إلى الاخبار عن عدم وجودهما. كما أنّ علاقة الأب بصلاة ابنه يدفعه بدل الأمر بها ، إلى الاخبار عنها فيقول في محضره : «ولدي يصلّي» ، مع أنّ الغاية في جميع ذلك هو النهي أو الأمر. وهذا غير القول بأنّ النفي مستعمل في الآية وأمثالها في النهي ابتداءً ، أو في النفي لينتقل إلى إرادة النهي. ولأجل ذلك لو جعلنا مكان «لا» لفظة «ليس» وقلنا : (ليس في الحج رفث ولا فسوق ولا جدال) ، كانت الجملة صحيحة ومتّزنة.
وثانياً : إنّ استعمال الهيئة في النفي ليس بأقلّ من استعمالها في النهي بأحد الوجهين لاحظ الجمل التالية : «لا بيع إلّا في ملك» ، «لا عتق إلّا في ملك» ، «لا طلاق إلّا على طهر» ، «لا يمين للولد مع والده» ، «لا يمين للمملوك مع مولاه ولا للمرأة مع زوجها» ، «لا رضاع بعد فطام» ، «لان ذر في معصية الله» ، «لا يمين للمكره» ، و «لا رهبانية في الإسلام» وغير ذلك ، تجد أنّه لا يصحّ فيها إلّا إبقاء النفي على معناه.
ولك أن تقول ، إنّ ما يقع بعد النفي إذا كان مناسباً للحكم الوضعي ـ كما في هذه الأمثلة ـ ، فالصيغة متعيّنة في النفي ، وأمّا غيره فهو محتمل للوجهين.
وثالثاً : إنّ حمل الصيغة على النهي لا يصحّ في حديث الشفعة حيث إنّ القاعدة جاءت علّة لجعلها ، حيث قال : «فقضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن». وقال : «لا ضرر ولا ضرار». وقال : «إذا أرفت الأُرف وحدّت الحدود فلا شفعة» فالقضاء بالشفعة من فعل الشارع ولا معنى لتعليله بحرمة اضرار الناس