ثم ذكر أن عدم الغرابة المعتبرة «هى عند العرب العاربة لا عند غيرهم ، فلا تعتبر الغرابة عند غيرهم وجودا ولا عدما (٥)»
إذن الغريب قسمان :
(١) قبيح غير مأنوس الاستعمال لدى جمهور العرب العاربة ، وهو عيب يخل بالفصاحة ، ولذا لا يشتمل القرآن على شىء منه ؛ لأنه إن وجد جرّ لنسبة الجهل أو العجز له سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، كما يقول السعد فى شرحه «لمختصر التلخيص» (٦) قلت : «أو السفه والعبث ؛ لأنه ـ سبحانه وتعالى ـ إن لم يعلم بعدم فصاحة الكلمة لزم نسبة الجهل إليه ، وإن علم فلم يستطع وضع الفصيح لزم العجز ، أو استطاع ولم يضع ، لزم العبث بتعريض القرآن لما يسقط حجيته ، ونبيه لما يذهب نبوته ؛ ولذا لا شىء منه فى كلام الله ـ سبحانه وتعالى ـ ولا كلام نبيه صلىاللهعليهوسلم.»
(٢) حسن مأنوس لدى جمهور العرب الخلّص ، وإن غمض على من سواهم بقدر ما يجهلون من مدلول اللغة ، أما العرب لا يتصور فى حقهم الجهل بهذا القسم ، وإلا صار كالأول وللزمت منه مفسدة فوق ما ذكرنا ، وهى التناقض بأن نجعله عند العرب حسنا مأنوس الاستعمال ، ونجعله كذلك عندهم قبيحا مهجور الاستعمال ، وكذلك يستلزم اختلال القسمة ؛ لأن المقسوم ليس أعم من أقسامه ، بل القسم الواحد هو عين مقسومة وهو عين القسم الآخر فالغريب ليس أعم من القبيح بل هو عين القبيح ، والقبيح هو عين الحسن فليس هناك قسمة.
والذى دفعنا لهذا التفصيل هو غفلة بعض أصحاب الرواية عنه ، وهم الذين يشترطون لصحة الحديث خلوه من الشذوذ والعلة ، ومع ذلك ينقلون عن جماهير الصحابة أنهم كانوا ـ وهم العرب الخلص ـ يجهلون مدلول اللغة ، وهذا يستلزم جميع المعانى السابق ذكرها ، ودفعهم إلى ذلك حرفيتهم فى اتباع صحة السند ما رواه أبو عبيد القاسم وابن سعد عن أبى بكر الصديق وعمر ـ رضى الله عنهما ـ فى عدم معرفة (الأب) فى قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) ، وإن كان ابن كثير أعلّ الأثر المروى عن أبى بكر بالانقطاع ؛ لعدم إدراك إبراهيم التيمى ـ الراوى عن أبى بكر ـ أبا بكر الصديق ، ولكنه لعله رفعه لدرجة الحسن بالأثرين الشاهدين له عن عمر رضي الله عنه ، وتكلف ابن كثير فى تأويل الأثر بأن عمر رضي الله عنه أراد استكشاف علم كيفية الأب ، وإلا فكونه نبتا فى الأرض معلوم لقوله تعالى : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) وكان يكفى الحافظ إعلال متن الأثر بما سبق أن ذكرنا من علة متمثلة فى المفاسد السابقة.