أسباب أخرى لغرابة هذا القسم الحسن لدى العرب الخلص :
قدمنا بأن جهل العرب الخلص بمدلول القسم الحسن من الغريب غير مقصود ؛ لذا فهناك أسباب أخرى غير الجهل منها :
(أ) تعنت مشركى قريش وتجاهلهم فى فهم الواضحات تلبيسا على القرآن والنبى صلىاللهعليهوسلم كسؤالهم عن الرحمن فيما أورده القرآن فى قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) (٧). وقد بيّن أبو حيان فى «تفسيره» أنهم استفهموا عن (الرحمن) وهم عالمون به (٨). وذلك كما صنع فرعون حيث جحد الحقيقة عند ما سأل عن رب العالمين وهو يعلم حقيقة الأمر وحقيقة الإطلاق والاستعمال.
وما استظهره أبو حيان هو عين ما استظهره الآلوسي وهو الحق الذى لا ريب فيه.
فهم يعلمون من الاشتقاق أن هذا الاسم مشتق من صفة الرحمة للدلالة على المبالغة فيها.
(ب) واستهداف المشركين إظهار القرآن فى مظهر السابق المتهافت والعابث اللاهى ، ويظهر هذا بوضوح عند تشبيههم على شجرة الزقوم وهم يقولون : النار تأكل الشجر فكيف تنبت فيه شجرة. وقال آخر : ما الزقوم إلا التمر بالزبد وأنا أتزقمه فردّ عليه القرآن بقوله تعالى : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) (٩)
وقد ذكر البغوىّ فى تفسير هذه الآيات أن ابن الزبعرى قال لصناديد قريش : إن محمدا يخوفنا بالزقوم ؛ فجمعهم أبو جهل فى بيته وقال لجارية : زقمينا ، فأتتهم بالزبد والتمر فقال : تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمدا فقال تعالى : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) (١٠).
وغير ذلك من النماذج من هذا النمط الخبيث ، من نحو سخريتهم من عدد التسعة عشر لخزنة النار ، على ما جاء فى سورة المدثر ، وحمل اليهود استقراض الله خلقه على حقيقته لا على مجازه أو الاستعارة التمثيلية حتى قالوا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) ، واستشكال نصارى نجران من أخوّة