يقول لك الملك : اجتهد فى الخدمة ، واجمع جندك للقتال ، فإن قال الرسول : يقول الملك :
لا تتهاون فى خدمتى ، ولا تترك الجند تتفرق ، وحثّهم على المقاتلة لا ينسب إلى كذب ولا تقصير فى أداء الرسالة.
وقسم آخر : قال الله لجبريل : اقرأ على النبى هذا الكتاب ، فنزل جبريل بكلمة من الله من غير تغيير ، كما يكتب الملك كتابا ويسلمه إلى أمين ويقول : اقرأه على فلان ، فهو لا يغيّر منه كلمة ولا حرفا) (٧٢).
وقد عقب على ذلك الإمام الحجة السيوطى شارحا وموضحا وموجها ومدللا فقال : (قلت : القرآن هو القسم الثانى ، والقسم الأول : هو السنة كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن ، ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى لأن جبريل أداه بالمعنى ولم تجز بالقراءة (أى فى القرآن) بالمعنى ؛ لأن جبريل أداه باللفظ ، ولم يبح له إيحاءه بالمعنى. والسر فى ذلك : أن المقصود منه التعبد بلفظه والإعجاز به ، فلا يقدر أحد أن يأتى بلفظ يقوم مقامه ، وإن تحت كل حرف منه معانى لا يحاط بها كثرة ، فلا يقدر أحد أن يأتى بدله بما يشتمل عليه ، والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين ، قسم يروونه بلفظ الموحى به ، وقسم يروونه بالمعنى ، ولو جعل كله مما يروى باللفظ لشقّ ، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف. فتأمل) (٧٣).
ولست أرى ما ارتآه العلامة الزرقانى فى نقده لكلام الإمام الجوينى المتقدم من أنه لا يوجد أمامنا دليل على أن جبريل كان يتصرف فى الألفاظ الموحاة إليه فى غير القرآن ، كيف وقد قال الإمام السيوطى عقب تعقيبه السابق مباشرة : (وقد رأيت عن السلف ما يعضد كلام الجوينى ، وأخرج ابن أبى حاتم من طريق عقيل عن الزهرى ، أنه سأل عن الوحى فقال : الوحى ما يوحى الله إلى نبى من الأنبياء ، فيثبته فى قلبه ، فيتكلم به ويكتبه ، وهو كلام الله ، ومنه ما لا يتكلم به ولا يكتبه لأحد ولا يأمر بكتابته ، ولكنه يحدّث به الناس حديثا ، ويبين لهم أن الله أمره أن يبينه للناس ويبلغهم إياه) (٧٤).
ومن ثم نقف على حقيقة الوحى القرآنى ونستيقن نزوله بلفظه ومعناه وبما حفل به من العظمة وقوة التأثير وجلال التنزيل ، وتبارك منزّله ـ جل وعلا ـ إذ يقول : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) (٧٥). قال بعض المفسرين فى تفسيرها : (لو كانت الجبال مقام الإنسان فى الخطاب (أى القرآنى) لتدكدكت الجبال وتزررت ، وانفلقت الصخور