وقد استدل الذاهبون إلى هذا الرأى المتهافت بظاهر قوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ) (٦٩). حيث إن تخصيص النزول بالقلب ـ على أن المراد به العضو المخصوص ـ موجه بأن المعانى الروحية تنزل على الروح ثم تنتقل به إلى القلب ، لما بينهما من التعلق ، ثم تتصعد منه إلى الدماغ ، فينتقش بها لوح المتخيلة.
بيد أن هذا خلاف القول الصحيح عند المفسرين والمحدثين ، الذين وجّهوا لتخصيص القلب بالنزول : بأنه المدرك والمكلف دون سائر الجسد ، وهو المخاطب فى الحقيقة لأنه موضع التمييز.
وقد يقال : إنه لما كان له صلىاللهعليهوسلم جهتان : جهة ملكية يستفيض بها ، وجهة بشرية يفيض بها ، جعل الإنزال على روحه صلىاللهعليهوسلم المعبر عنها بالقلب ، حيث قال الراغب : إنها أحد إطلاقاته ؛ لأنها المتصفة بالصفات الملكية التى يفيض بها من الروح الأمين. وقد أشار إلى ذلك تعبير القرآن ب (على قلبك) دون (عليك).
وكذلك وجّه تخصيص الإنزال بالقلب ؛ بأنه إشارة إلى كمال تعلقه صلىاللهعليهوسلم وفهمه ذلك المنزل ، حيث لم تعتبر واسطة فى وصوله إلى القلب الذى هو محل العقل كما يقتضيه ظاهر كثير من الآيات والأحاديث (٧٠).
ومن ثم يترجح القول الحق : وهو أن القرآن الكريم بلفظه ومعناه من عند الله تعالى لا مدخل لجبريل ولا لغيره فى ألفاظه ، فالله ـ سبحانه ـ هو الذى أبرز ألفاظ القرآن وكلماته مرتبة على وفق ترتيب كلماته النفسية لأجل التفهيم والتّفهّم ، كما نبرز نحن كلامنا اللفظى ـ ولله المثل الأعلى ـ على وفق كلامنا النفسى لأجل التفهيم والتفهم ، ولا ينسب الكلام بحال إلا إلى من رتبه فى نفسه أولا دون من اقتصر على حكايته وقراءته ، وإننا لنؤازر العلامة الزرقانى فى حكمه على زعم أن ألفاظ القرآن من عند جبريل أو النبى صلىاللهعليهوسلم بقوله : (وعقيدتى أنه مدسوس على المسلمين فى كتبهم ؛ وإلا فكيف يكون القرآن حينئذ معجزا واللفظ لمحمد أو لجبريل؟ ثم كيف تصح نسبته إلى الله واللفظ ليس لله؟ مع أن الله يقول : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) (٧١).
وللإمام الجوينى تقرير فى قضية الوحى القرآنى يؤكد فيه صدوره عن الله لفظا ومعنى ؛ يقول فيه : (كلام الله المنزل قسمان :
قسم قال لجبريل : قل للنبى الذى أنت مرسل إليه : إن الله يقول : افعل كذا وكذا .... ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل على ذلك النبى ، وقال له ما قاله ربه ، ولم تكن العبارة تلك العبارة ؛ كما يقول الملك لمن يثق به : قل لفلان :