العلاقة مع الله ـ تعالى ـ بالعبادات ومع الخلق بالمعاملات ، ومع النفس بتزكيتها بالأخلاق الصالحة واقتلاع الأخلاق السيئة ، كل ذلك عجزت عنه عقول البشر ، لأن حقائق الأشياء وسبل إصلاحها لا يحيط بها ـ على الحقيقة ـ إلا موجدها ، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)؟ (٨٠)
إن منطق العقل والتجربة يقضى بالرجوع ـ فى صيانة كل صنعة وإصلاحها ـ إلى صانعها لتظل فى وضعها الأمثل ، وقد أودع الخالق ـ جل وعلا ـ منهج إصلاح الخليقة فى دستوره العظيم (القرآن المجيد) الذى هو مصدر الهداية والكمال الأعلى ، وقد صرح بذلك ـ سبحانه ـ فى قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (٨١).
ولقد اتفقت كلمة ذوى العقول الصحيحة على أن العقل والعلم البشرى لا يغنيان إطلاقا عن هداية الرسل بما أوحاه الله إليهم ، مهما ارتقت مدارك الحكماء والمفكرين فى معارفهم العقلية ، فإن حكمتهم وآراءهم وعلومهم إنما هى آراء بشرية ناقصة ، وظنون لا تبلغ من عالم الغيب إلا أنه موجود مجهول (٨٢)!! وهى عرضة للخطأ والتخطئة والخلاف فيها على أية حال. وأحكامها نسبية ، فإلام التحاكم إذا عند الاختلاف الذى هو من سنن الأحكام الاجتهادية؟
هنا تتجسد ضرورة الوحى والبيان النبوى لحسم النزاع والخلاف ، كما نطق التنزيل فى قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٨٣).
وإذا تحصل لنا من جملة ما سبق : أن صلاح البشر بالدين مبنى على الإيمان بالغيب والوقوف فيه عند خبر الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ولا يمكن إصلاحهم بالعلوم المادية الكسبية وحدها ، فإنه يقع فى دائرة اليقين أنه لا سبيل إلى إنقاذ البشرية فى هذا العصر إلا بإثبات الوحى المحمدى الموحد لإنسانيتهم ، المزكى لأنفسهم واتباع هديه الذى هو مناط السعادتين الدنيوية والأخروية (٨٤) ، وهو المخرج الوحيد لكل ما تعانيه الإنسانية من شقاء وظلم وعناء وجموح واستبداد ، وقد أوضح التنزيل منهج الهداية والنجاة بقوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٨٥).
*****