ما يقتضيه ظاهر الحال. ويكون الكلام فى ذروة البلاغة والبيان الرفيع ، لأن ذلك الإخراج يجيء فى القرآن لاعتبارات بلاغية خفية تراعى فى البيان القرآنى المعجز (٦).
ومن أمثلة الإخراج على خلاف ظاهر مقتضى الحال فى القرآن الكريم قوله تعالى :
(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (٧) فى الآية الكريمة الأولى أكد «الموت» بثلاثة مؤكدات هى :
اسمية الجملة. إن ، لام التوكيد. مع أن الموت لا ينكره أحد قط ؛ لأنه حقيقة يؤمن بها كل الناس. فمقتضى ظاهر الحال هنا أن لا يكون فى الكلام توكيد ، لكن هذا الظاهر خولف لاعتبار بلاغى عظيم.
ذلك أن المخاطبين لما كانوا مفتونين بالدنيا ، شديدى الحرص على السعى من أجل الحصول عليها ، والتمتع بها وإهمالهم العمل للآخرة ، شبّهوا بمن لا يؤمن بالموت فخوطبوا خطاب المنكر الشديد الإنكار لنزول الموت به.
وهذا اعتبار بلاغى تربوى كما ترى وكذلك قوله تعالى (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) فيه إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر ، فالبعث أنكره كثير من الناس فى حياة كل الرسل ، وحكى القرآن الكريم نفسه ما قاله منكرو البعث من مشركى العرب. ومع ذلك ترى القرآن ـ هنا ـ لا يؤكد مجىء البعث إلا بمؤكد واحد ، وكان الظاهر يقتضى أن يؤكد بثلاثة مؤكدات أو أكثر. فلما ذا خولف الظاهر هنا يا ترى؟
الداعى البلاغى لهذه المخالفة ، هو إظهار التعريض بغفلة المخاطبين المنكرين للبعث.
والإيحاء بأن البعث جدير به أن لا ينكره منكر ، لقوة الأدلة عليه ، لأن منكرى البعث بنوا إنكارهم على أساس استحالة إحياء الأنفس بعد موتها وصيرورة الأجساد ترابا ، وهذه شبهة واهية لأن الله خلق الناس من العدم ، فكيف يستحيل عليه أن يعيد حياتهم ، وقد خلقهم من قبل ولم يكونوا شيئا.
هذا هو الاعتبار أو الداعى البلاغى فى مخالفة الظاهر فى الآيتين معا ، وهى اعتبارات بليغة أسمى ما تكون البلاغة. وهذا هو الشأن فى كل صور الإخراج على خلاف ظاهر الحال فى القرآن الكريم.
على أننا نجد دواعى أخرى فى القرآن الكريم للإخراج على خلاف الظاهر ، نكتفى بمثال واحد منه توخيا للإيجاز. المثال هو قوله تعالى :
(قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٨)
هذا كلام الملائكة لله عزوجل ، حين طلب