جاءت فى هاتين الآيتين ضروب عدة من البديع نذكرها فيما يلى :
(أ) المشاكلة : وذلك فى قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) وهى مشاكلة من النوع الثانى الذى ذكروه فى قولهم : «المشاكلة هى ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه فى صحبته تحقيقا أو تقديرا» (٥).
فهى مشاكلة تقديرية. وذلك بناء على ما ذكره المفسرون. فالزمخشرى يقول «ويجوز أن تقع هذه العبارة فى كلام الكفرة. فقالوا : أما يستحى رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب ـ إشارة إلى قوله تعالى : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) (٦) فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال ـ وهو فن من كلامهم بديع وطراز عجيب منه قول أبى تمام :
من مبلغ أبناء يعرب كلها |
|
أنى بنيت الجار قبل المنزل |
ويلاحظ أن اللفظ «المشاكل» هنا مجازى المعنى حقيقته الترك. فمعنى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) أى لا يترك الضرب بالبعوضة ترك من يستحى أن يمثل بها لحقارتها ...
لأن الحياء تغير وانكسار يعترى الإنسان من تخوف ما يعاب به أو يذم (٧) وهو بهذا المعنى مستحيل فى جانب الله.
إذن فقد اجتمع هنا لونان بديعيان :
المشاكلة .. وقد تقدم شرحها.
(ب) والمماثلة أو التمثيل .. وقد سبق أنهم يعتبرونه لونا بديعا. وسبق كذلك أنه عندهم يطلق على عدة أمور : الاستعارة المفردة ، الاستعارة التمثيلية ، المثل السائر.
(ج) الإبهام : وذلك بناء على ما ذكره المفسرون ـ كذلك ـ من أن «ما» فى قوله تعالى : (ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) أن «ما» الأولى إبهامية ، وهى التى إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما وزادته شيوعا وعموما (٨) وكون «ما» إبهامية مشروط بنصب «بعوضة» ـ كما هى القراءة المشهورة ـ وإن رفعت «بعوضة» فإن «ما» تصبح موصولة.
(د) التوجيه : وذلك فى قوله تعالى : (فَما فَوْقَها) فإن الفوقية هنا لها معنيان ، أحدهما : فما تجاوزها فى المعنى الذى ضربت فيه وهو القلة والحقارة.
وثانيهما : فما زاد عليها فى الحجم.
ولما كان أحد هذين المعنيين لم تنصب قرينة على إرادته بعينه ، وبقى الفهم والاعتقاد شركة بينهما حصل النوع البديعى الذى يسمونه «التوجيه» ؛ وهو أن يكون للفظ معنيان لم تقم قرينة على إرادة أحدهما. والمتأمل يرى أن كلا المعنيين هنا صالح للفهم والاعتقاد.