وبذلوا جهدا مشكورا فى هذا البحث معتمدين على الروايات الصحيحة التى نقلها التابعون عن ائمة الصحابة وعلمائهم ؛ ليستعينوا بمعرفتها على فهم الأحكام الشرعية التى تضمنتها الآيات ، وليعرفوا الناسخ منها والمنسوخ وغير ذلك مما ذكرنا فى معرفة المكى والمدنى.
وقد نقل السيوطى فى «الاتقان» (٥) عن أبى القاسم النيسابورى فى كتابه (التنبيه على فضل علوم القرآن) قوله : (من أشرف علوم القرآن علم نزوله ، وجهاته ، وترتيب ما نزل بمكة والمدينة ، وما نزل بمكة وحكمه مدنى ، وما نزل بالمدينة وحكمه مكى ، وما نزل بمكة فى أهل المدينة وما نزل بالمدينة فى أهل مكة ، وما يشبه نزول المكى فى المدنى ، وما يشبه نزول المدنى فى المكى ، وما نزل بالجحفة ، وما نزل ببيت المقدس ، وما نزل بالطائف ، وما نزل بالحديبية ، وما نزل ليلا ، وما نزل نهارا ، وما نزل مشيعا ، وما نزل مفردا ، والآيات المدنيات فى السور المكية ، والآيات المكيات فى السور المدنية ، وما حمل من مكة إلى المدينة ، وما حمل من المدينة إلى مكة ، وما حمل من المدنية إلى أرض الحبشة ، وما أنزل مجملا ، وما نزل مفصلا ، وما اختلفوا فيه فقال بعضهم مدنى وبعضهم مكى.
فهذه خمسة وعشرون وجها من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم فى كتاب الله تعالى). أه.
أقول : فى هذا الكلام شىء من المبالغة ؛ لأن معرفة هذه الوجوه كلها لا يترتب عليها فوائد ذات بال.
ومعرفتها جميعا من فضول العلم لا من أصوله ، وقوله : (من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم فى كتاب الله تعالى) حكم غير صحيح ، فإن أراد بعضها ، كمعرفة المكى والمدنى فمسلّم.
والصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ لم يكونوا يعرفون هذه الوجوه جميعا ، ومع ذلك كانوا يتكلمون فى كتاب الله ـ تعالى ـ بما انتهى إليه علمهم عن الصادق المصدوق صلىاللهعليهوسلم ، أو وصل إليه فهمهم للآيات إذا لم يكن فيها بيان عنه صلىاللهعليهوسلم بقول منه أو بفعل.
نقل الزركشى فى «البرهان» (٦) عن القاضى أبى بكر فى «الانتصار» : (أن هذا يرجع إلى حفظ الصحابة وتابعيهم .. غير أنه لم يكن من النبى صلىاللهعليهوسلم فى ذلك قول ولا ورد عنه أنه قال : اعلموا أن قدر ما نزل بمكة كذا ، وبالمدينة كذا ، وفضله كذا ، ولو كان ذلك منه لظهر وانتشر ، وإنما لم يفعله لأنه لم يؤمر به ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة.