رجوعا فى الدنيا فيكون المعنى أنهم وإن اختلفوا فى الاعتقادات صائرون إلى الإقرار بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ خالقهم ورازقهم ومصرفهم ومدبرهم ، أو يكون ذلك رجوعا فى الآخرة فيكون المعنى أنهم راجعون إلى الدار التى جعلها الله ـ تعالى ـ مجال الجزاء على الأعمال ، وموفى الثواب والعقاب ، وإلى حيث لا يحكم فيهم ولا يملك أمرهم إلا الله ـ سبحانه وتعالى ، وشبّه تخالفهم فى المذاهب ، وتفرقهم فى الطرائق ـ مع أن أصلهم واحد ، وخالقهم واحد ـ بقوم كانت بينهم وسائل متناسجة ، وعلائق متشابكة ، ثم تباعدوا تباعدا قطع تلك العلائق وشذب تلك الوصائل ، فصاروا أصنافا مختلفين.
فهذا تحليل أدبى يبعد بالكتاب عن جفاف المنطق الصارم ، وله أمثاله ، بل ما يزيد عنه كثيرا ، لأنى لو نقلت النصوص التامة لتعليقاته الأدبية البارعة لضاق نطاق القول ، وحسبى أن ألفت إلى ما تعرض له فى مثل قول الله :
(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) (٤١) وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٢) وقوله : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) (٤٣) فقد سبق إلى تحليل كان ابن بجدته ، ودل على صدق استشفاف ، ولطافة اتجاه ، وأذكر أنى وضحت ذلك تماما فيما كتبته عنه تحت عنوان (منحى الشريف الرضى) فى كتابى (خطوات التفسير البيانى) ومنه اقتبست ما جاء عن الشريفين ـ رحمهماالله.
عبد القاهر ودلائل الإعجاز :
نشأ عبد القاهر نحويا إذ تعمق فى مسائل النحو تعمقا لم يصل إليه من سبقه ، وقد رأى أن النحو قد حيد به عن الطريق الأمثل حين قصره بعض دارسيه على ضبط أواخر الكلمات ، وما يخصها من إعراب وبناء ، مع أنه فى رسالته الحقيقية علم يؤدى إلى المعرفة الصحيحة لتركيب الجمل وبناء الأساليب ، وبالوقوف على ذلك يتسنى للدارس أن يعرف بلاغة الأسلوب ، ومن هنا كان الأسلوب القرآنى وهو أرفع نماذج الأدب العربى موضع التحليل البيانى المفضى إلى تأكيد الإعجاز ، وقد اطلع على ما قاله سابقوه ، وأفاد منه ليقيم على أساسه ما عرف بقضية النظم ، وجعل فى خطواته الأولى يتساءل عن الكلمات المفردة هل هى سر الإعجاز؟ ونفى ذلك لأن الكلمات المفردة شائعة لجميع الكتّاب ،