ومعانيها لا تزيد ولا تنقص ، فلا بد أن يكون هناك سرّ آخر ، وتساءل عن تركيب الحركات والسكنات فى الجملة القرآنية ، فنفى أن يكون ذلك هو السر المنشود ، فإذا لم تكن المقاطع والفواصل سر الإعجاز فإن ما تضمنه كثيرا من الاستعارات وأوجه البيان لا يقدم هذا السر أيضا ، ووالى البحث نافيا كل احتمال لا يثبت للنقاش حتى اهتدى إلى أن السر فى نظم القرآن ، وليس النظم شيئا عن غير توخى معانى النحو وأحكامه ، وذلك ما قام عليه كتابه (دلائل الإعجاز) ، وقد قال فى تقرير ذلك :
«اعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك أن لا نظم فى الكلمة ولا ترتيب ، حتى يعلق بعضها ببعض ، ويبنى بعضها على بعض ، وتجعل هذه بسبب من تلك ، وهذا ما لا يجهله عاقل ، ولا يخفى على أحد من الناس. وإذا كان كذلك ، فبنا إلى التعليق فيها والبناء ، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها ؛ ما معناه وما محصوله؟
وإذا نظرنا فى ذلك علمنا ألا محصول لها غير أن تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرا عن الآخر ، أو تعمد إلى اسم فتجعله فاعلا أو مفعولا ، أو تتبع الاسم اسما على أن يكون الثانى صفة للأول أو تأكيدا له أو بدلا منه أو تجىء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون الثانى صفة أو حالا أو تمييزا ، أو تتوخى فى كلام هو لإثبات معنى أن يصير نفيا أو استفهاما أو تمنيا فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك ... وعلى هذا يكون القياس» (٤٤) وإذن فنظم الكلام وفق قواعد النحو هو مدار الإبداع فى التركيب ، والألفاظ لا تتفاضل باعتبارها ألفاظا مجردة إنما تثبت لها الفضيلة وخلافها فى ملاءمة معنى اللفظة لجاراتها ، وفضل مؤانستها لأخواتها ، وهل قالوا لفظة متمكنة ، وفى غيرها قلقة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكين عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم.
ويزداد هذا المعنى وضوحا بالتمثيل فقد عمد الجرجانى إلى قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٥) فشرح الآية الكريمة وجلاها تجلية زاهية حين قال :
«إن شككت فتأمل هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها ، وأفردت لأدت من الفصاحة ما تؤديه وهى فى مكانها من الآية قل (ابلعى) واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها ، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها ، وكيف بالشك فى ذلك؟ ومعلوم أن مبدأ العظمة أن نوديت