الأرض ثم أمرت ، ثم أن كان النداء بيا دون أى نحو يا أيتها الأرض ، ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال : ابلعى الماء ، ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها ، ثم أن قيل «وغيض الماء» فجاء الفعل على صيغة فعل ، الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر ، وقدرة قادر ، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقول الله :
(وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) ، ثم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة ، والدلالة على عظم الشأن ، ثم مقابلة «قيل» بقيل فى الفاتحة ، أفترى لشىء من هذه الخصائص ، التى تملؤك بالإعجاز روعة ، وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من كل أقطارها ، تعلقا باللفظ من حيث هو صوت «مسموع ، وحروف تتوالى فى المنطق ، أم كل ذلك لما بين معانى الألفاظ من الاتساق العجيب». (٤٦)
والكتاب ملىء بالشواهد الباهرة فى قضايا الأسلوب القرآنى من ذكر وحذف ، وتقديم وتأخير ، ووصل وفصل ، مما كان بذرة قوية لعلم المعانى ، ولو سلك المتأخرون سبيل عبد القاهر فى هذا الاستشفاف الباهر لأراحوا من
عناء كثير ، ونتبع المثال السابق بمثال آخر ساقه الجرجانى فى تحليل قوله تعالى عن موسى عليهالسلام مع إيضاح ما فى النص الكريم من حذف للمفعول به أيضا مما يدل على نباهة فكر ، ودقة ذوق :
قال تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ). (٤٧)
قال عبد القاهر : «إن أردت أن تزداد تبينا لهذا الأصل أعنى وجوب أن تسقط المفعول لتتوفر العناية على إثبات الفعل لفاعله ، ولا يدخلها شوب ، فانظر إلى الآية ففيها حذف مفعول فى أربعة مواضع ، إذ المعنى وجد عليه أمة من الناس يسقون أغنامهم أو مواشيهم ، وامرأتين تذودان غنمهما ، وقالتا لا نسقى غنمنا ، فسقى لهما غنمهما ، ثم إنه لا يخفى على ذى بصر أنه ليس فى ذلك كله إلا أن يترك ذكره ، ويؤتى بالفعل مطلقا ، وما ذاك إلا أن الغرض فى أن يعلم أنه كان من الناس فى تلك الحال سقى ، ومن المرأتين ذود ، وأنهما قالتا : لا يكون منا سقى حتى يصدر الرعاء ، وأنه كان من موسى عليهالسلام من بعد ذلك سقى ، فأما ما كان من المسقى أغنما أم إبلا أم غير ذلك ، فخارج عن الغرض وموهم لخلافه ، وذلك إنه لو قيل : وجد من دونهما امرأتين تذودان غنمهما جاز أنه لم ينكر الذود من