فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (٤٩) حيث قال :
«الأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا ، وهذا لا يكون فيبقى أن يكون مجازا ، ووجه المجاز ، أنه صبّ عليهم النعمة صبّا ، فجعلوها ذريعة للمعاصى وإتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبّب إيلاء النعمة فيه. وإنما خوّلهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ، ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء ، وأقدرهم على الخير والشر. وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول. وهو كلمة العذاب فدمّرهم» (٥٠).
ثم يكر الزمخشرى على رأى ذائع فينقضه بقوله : «هلّا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا» قلت : إن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف بحذف ما الدليل قائم على نقيضه ، وذلك أن الأمر به حذف لأن فسقوا يدل عليه ، وهو كلام مستفيض ، يقال : أمرته فقام وأمرته فقرأ ، فلا يفهم منه إلا أن المراد به قيام وقراءة ، ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب» (٥١) ، ثم يفيض المفسر الكبير فيما يؤيد رأيه ؛ ذاكرا من الأمثلة ما يدل على مهارة واقتدار ، فإن كان طابع المنطق يطغى على عبارته ، ولو تجاوز هذا الطابع الجدلى الصارم لكان كلامه نمطا من التفسير البيانى يقارب نمط الشريف وعبد القاهر ، فيخرج من هذه الحدود إلى فضاء فسيح ، وإذا كان الزمخشرى لم ينس نصيب النحو فيما تصدّى له من تفسير آيات الكتاب المبين فإن نصيب البيان قد تجلى بوضوح سافر فى أكثر ما كتب ؛ مما يكشف لبعض الدقائق الخافية فى أسرار التأويل ، وأمثّل لذلك بما ذكره فى تفسير قول الله عزوجل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (٥٢).
قال : اقشعرّ الجلد إذا تقبّض تقبّضا شديدا ، وتركيبه من حروف القشع ، وهو الأديم اليابس مضموما إليه حرف رابع وهو الراء ليكون رباعيّا ودالا على معنى زائد يقال :
اقشعر جلده من الخوف ، وقفّ شعره وهو مثل فى شدة التخويف ، فيجوز أن يريد به الله تعالى التمثيل تصويرا لإفراط خشيتهم.
وأن يريد به التحقيق» (٥٣) ، ولم أجد من خص كلمة قشع بهذا التحليل قبل الزمخشرى ، وهو مما يدل على شدة إحساسه بمعانى الحروف قبل إحساسه بمعانى الكلمات.
ونظير ذلك ما ذكره من الفرق بين مرضع ومرضعة عند تفسيره لقول الله عزوجل :