وقد يتأثر الحيوان بالصوت الحسن والنغمات الموزونة أكثر من الضرب بالسياط. فالجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثرا يستخف معه الأحمال الثقال ، ويستصغر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه. فترى الجمال إذا طالت عليها البوادي ، واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال ، ما إن تسمع صوت الحادي حتى تمد أعناقها ، وتصغي إليه ناصبة آذانها ، وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها. وربما تتلف أنفسها من شدة السير ونقل الحمل وهي لا تشعر به لنشاطها.
وقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري قال : كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب ، فأضافني رجل منهم ، وأدخلني خباءه ، فرأيت عبدا أسود مقيدا بقيد ، ورأيت جمالا قد ماتت بين يدي البيت ، وقد بقي منها جمل ، وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه ، فقال لي الغلام : أنت ضيف ولك حق ، فتشفع فيّ إلى مولاي ، فإنه مكرم لضيفه ، فلا يرد شفاعتك ، فعساه يحل القيد عني.
قال : فلما أحضروا الطعام امتنعت وقلت : لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد.
فقال : إن هذا العبد قد أفقرني ، وأهلك جميع مالي. فقلت : ما ذا فعل؟
فقال : إن له صوتا طيبا ، وإني كنت أعيش من ظهور هذه الجمال ، فحملها أحمالا ثقالا ، وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته. فلما حطت أحمالها ماتت كلها إلا هذا الجمل الواحد. ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته لك.
قال : فأحببت أن أسمع صوته ، فلما أصبحنا أمرته أن يحدو على جمل يستقي الماء من بئر هناك ، فلما رفع صوته هام ذلك الجمل وقطع حباله ووقعت أنا على وجهي. فما أظن أني سمعت قط صوتا أطيب منه (٥٢).
وكانت الطيور تقف على رأس داود عليهالسلام لاستماع صوته. قال تعالى :
(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ (٥٣) وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ). (٥٤) وتوصل العلماء إلى اسماع الأبقار نغمات معينة حين حلبها تجعلها تقف هادئة وتدر اللبن ، كما توصلوا إلى إسماع الزرازير والحيوانات التي يرغبون في إبعادها عنهم أصواتا تجعلها تنفر وتبتعد ؛ فتجتنب أضرارها.
وبذلك تدخل في تربية الحيوان عوامل ليست في النبات.