بالعدم ؛ لأنّ الداعي لا يدعو إلّا إلى معدوم. وأثر الموجب يقارنه في الزمان ؛ إذ لو تأخّر عنه لكان وجوده في زمان دون آخر. فإن لم يتوقّف على أمر غير ما فرض مؤثّرا كان ترجيحا من غير مرجّح ، وإن توقّف لم يكن المؤثّر تامّا وقد فرض تامّا ، هذا خلف.
أقول : هذه مقدّمة يفتقر إليها في إثبات قادريّته تعالى ، وفيها بحثان :
الأوّل : إنّ الفاعل إمّا أن يكون موجبا أو مختارا على سبيل الانفصال الحقيقيّ ؛ لأنّه إمّا أن يكون بحيث يصحّ منه الفعل والترك أولا. والأوّل المختار ، والثاني الموجب.
وبيانه : أنّ الفاعل إمّا أن يكون فعله تابعا لقصده وداعيه أو لا يكون ، بل لقاسر أو لطبع المحلّ. والأوّل المختار ، والثاني الموجب. وليعتبر العاقل من نفسه الفرق بين حركته على وجه الأرض في مصالحه ومهمّاته ، وبين حركته حال إلقائه من شاهق وحركات نبضه ، فإنّه يجد من نفسه في الأوّل بحيث يمكنه الفعل ويمكنه الترك ويترجّح أحدهما بانضياف ميل جازم منه إلى وقوعه ، وذلك الميل تابع لتصوّر جلب نفع أو دفع ضرر. وفي الثاني يجد من نفسه بحيث لا يقدر على أن لا تصدر منه الحركة ، حتّى لو أراد عدمها وجزم به لم يؤثّر ذلك شيئا ، فهذا فرق بين الموجب والمختار.
الثاني : أنّ فعل المختار حادث وفعل الموجب لا يتخلّف عنه. والأوّل هو المعركة العظيمة بين الحكماء والمتكلّمين ؛ لأنّه قد اشتهر عند الحكماء عدم القول باختيار الصانع ، لقولهم بقدم العالم المستلزم لإيجاب الفاعل.
والمتأخّرون نقلوا خلاف هذا المشهور وقالوا : إنّ المحقّقين من الحكماء يقولون باختيار الصانع. بل إنّما محلّ النزاع بينهم أنّ فعل المختار هل يجوز تأخّره عنه أم لا؟ فالحكماء قالوا : لا يجوز. وفسّروا المختار بأنّه الفاعل بقدرة وإرادة ، فإذا انضمّت الداعية إلى القدرة يجب أن يكون الفعل معها بالزمان ؛ لأنّ الفاعل مع الداعي يصير علّة تامّة ، والعلّة التامّة لا يتأخّر معلولها عنها ، وقدرة الله تعالى وإرادته قديمتان ، فوجب عندهم قدم العالم (١).
__________________
١ ـ قال المصنّف في إرشاد الطالبين بعد تعريف فاعل المختار والموجب : واعلم أنّه قد اشتهر بين القوم ـ أعني