ومن أعجب العجب أن الجهال من المخالفين بل علماؤهم يعدون هذا الدفن من مناقبهما وفضائلهما ، بل يستدلون به على استحقاقهما للإمامة والخلافة.
وقد روى الشيخ المفيد قدس الله روحه في مجالسه (١) أن فضال بن الحسن بن فضال الكوفي مر بأبي حنيفة وهو في جمع (٢) كثير يملي (٣) عليهم شيئا من فقهه وحديثه ـ ، فقال لصاحب كان معه : والله لا أبرح أو أخجل أبا حنيفة .. فدنا منه فسلم عليه ، فرد ورد القوم بأجمعهم السلام عليه ، فقال : يا أبا حنيفة رحمك الله! إن لي أخا يقول : إن خير الناس بعد رسول الله (ص) علي بن أبي طالب ( عليه
__________________
حتى هلك وكان سيد قومه!. انظر : سنن الدارمي : ١ ـ ٥٤ و ٥٥ ، وتاريخ ابن عساكر ٦ ـ ٣٨٤ ، وتفسير ابن كثير ٤ ـ ٢٣٢ ، والإتقان للسيوطي ٢ ـ ٥ ، وكنز العمال ١ ـ ٢٢٨ ، ٢٢٩ ، وفتح الباري ٨ ـ ١٧ ، وسيرة عمر لابن الجوزي : ١٠٩ ، وإحياء العلوم ١ ـ ٣٠ وغيرها.
وبعد نهيه عن القرآن تفسيرا ، والحديث رواية ، والسنة تدوينا ، منع عن الكتب والمؤلفات قراءة أو حفظا ، ونسخا وتدوينا. وقد جاء بطرق مختلفة ومضامين متظافرة جملة من الروايات سلف بعضها ، منها أنه عاقب من حفظها بل من أخبر بوجودها ، وقد أصابوا عند فتح المدائن كتبا فيها علم من علوم الفرس .. وقد عاقب آخر وضربه حتى قال : دعني ، فو الله لا أدع عندي شيئا من تلك الكتب إلا أحرقته ، فتركه!.
وقد أمر عمرو بن العاص بإحراق كتب مدينة الإسكندرية ، وتلك قصة مشهورة نقلها أكثر من واحد من المؤرخين كما في تاريخ مختصر الدول للملطي ـ المتوفى سنة ٦٨٤ ه ـ صفحة : ١٨٠ ، وتاريخ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان ٣ ـ ٤٠ و ٤٢ وغيرهما ، وقد ناقشها بعض المتأخرين منا بما لا حاصل فيه ، ولم نعقد حواشينا لتفصيلها ، وقد أسندها وفصل البحث فيها شيخنا الأميني في غديره ٦ ـ ٢٩٧ ـ ٣٠٢ ، فراجع.
ثم بعد هذا فقد حرم خليفتهم كل بحث وتحقيق ـ كما ذكره حجة إسلامهم الغزالي ـ يقول في إحياء العلوم : ١ ـ ٣٠ : و [ عمر ] هو الذي سد باب الكلام والجدل ، وضرب صبيغا بالدرة لما أورد عليه سؤالا في تعارض آيتين في كتاب الله ، وهجره ، وأمر الناس بهجره!!.
فهل يبقى ـ والحال هذه ـ مبدأ لأصول التعليم والتعلم؟ ومن هنا قد حرمت الأمة الكثير الكثير ونزلت الحضيض الحضيض ببركة تلك الدرة وصاحبها.
(١) جاء في الفصول المختارة ٢ ـ ٤٤ ـ ٤٥ ، بتصرف واختصار.
(٢) في ( س ) : جميع.
(٣) في ( س ) : يمل.