ومنه الْحَدِيثُ « لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ » سُئِلَ مَا الْأَمْرُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؟ قَالَ : مَثَلُ ذَلِكَ رَجُلٌ رَأَيْتَهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَنَهَيْتَهُ فَلَمْ يَنْتَهِ فَتَرَكْتَهُ فَفَعَلَ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ فَلَيْسَ حَيْثُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْكَ فَتَرَكْتَهُ كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَهُ بِالْمَعْصِيَةِ.
و « الجَبْرِيَّةُ » بإسكان الباء خلاف القدرية ، وفي عرف أهل الكلام يسمون المُجْبِرَة والمُرْجِئَة لأنهم يؤخرون أمر الله ويرتكبون الكبائر. والمفهوم من كلامالأئمة عليهم السلام أن المراد من الجَبْرِيَّة الأشاعرة ومن القَدَرِيَّة المعتزلة ، لأنهم شهروا أنفسهم بإنكار ركن عظيم من الدين وهو كون الحوادث بقدرة الله تعالى وقضائه ، وزعموا أن العبد قبل أن يقع منه الفعل مستطيع تام ، يعني لا يتوقف فعله على تجدد فعل من أفعاله تعالى ، وهذا معنى التَّفْوِيض ، يعني أن الله تعالى فوض إليهم أفعالهم وقال علي بن إبراهيم : المُجْبِرَة الذين قالوا ليس لنا صنع ونحن مجبرون يحدث الله لنا الفعل عند الفعل ، وإنما الأفعال منسوبة إلى الناس على المجاز لا على الحقيقة ، وتأولوا في ذلك بآيات من كتاب الله لم يعرفوا معناها ، مثل قوله ( وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) وقوله : ( فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ). وغير ذلك من الآيات التي تأولوها على خلاف معانيها ، وفيما قالوه إبطال الثواب والعقاب ، وإذا قالوا ذلك ثم أقروا بالثواب والعقاب نسبوا إلى الله الجور وأنه يعذب على غير اكتساب وفعل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا أن يعاقب أحدا على غير فعل وبغير حجة واضحة عليه ، والقرآن كله رد عليهم ، قال الله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) فقوله ( لَها ) و ( عَلَيْها ) هو الحقيقة لفعلها ، وقوله : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) وقوله : ( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) وقوله : ( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ) وقوله : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا